Untitled Document

    | المرأة | فنون وآداب |   إتصل بنا | الأطفال |  إرشيف الأخبار | الصفحة الرئيسية |  مقالات | دراسات

 

صوت اليسار العراقي

 

تصدرها مجموعة من الكتاب العراقيين

webmaster@saotaliassar.org    للمراسلة

 

أين أدب المقاومة ؟

د. ثائر دوري

في عام 1987 اندلعت انتفاضة أطفال الحجارة و بعدها اندلعت انتفاضة شعرية مواكبة تؤرخ لهذا الحدث التاريخي غير المسبوق ، الذي ضخ دماء جديدة في شرايين الأمة التي توهم بعض السطحيين ،الذين ينخدعون بالمظاهر أنها أصيبت بالتصلب نتيجة الشيخوخة ، فأثبت أطفال الحجارة أن الأمة طائر عنقاء ينهض كل مرة من بين الرماد ، أو كأن الأمة  تستعيد قول شاعر العروبة الخالد المتنبي :

كم قد قتلت وكم قد مت عندكم
ثم انتفضت فزال القبر والكفن
قد كان شاهد دفني قبل قولهم
جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا

و إذا كان بعض تلك القصائد ، التي سميت " قصائد الحجارة "، ركيكاً ، فإن بعضها كان على مستوى عال و أرخ فنياً لتلك اللحظة التاريخية كقصيدة نزار قباني الشهيرة على سبيل المثال لا الحصر ، لكن لحظة 1987 التي اشتكى البعض منها لتدني المستوى الفني ، و غلبة المضمون على حساب الشكل الفني ، و انزلاق بعض القصائد لتصير خطاباً سياسياً مباشراً . هذه اللحظة لم تتكرر ثانية ، فبعد عام 1987 انفرط عقد الإتحاد السوفيتي ، ثم حطم الأمريكان العراق ، و جاءت اتفاقية أوسلو ، فتحول كثير من الكتاب و المفكرين من الفكر الماركسي و القومي إلى ما سموه "الليبرالية "، ثم إلى مسخها " الليبرالية الجديدة " . بعضهم فعل ذلك تحت ضغط الهزيمة العالمية و القومية و اليأس و فقدان الأمل بالتغيير ، و و آخرون بدّلوا البندقية من كتف لآخر لأسباب انتهازية محضة ، فالأمريكان و أدواتهم في المنطقة وضعوا يدهم على سوق الصحافة و النشر في الوطن العربي و المهاجر .

بدأت تمر الأحداث التاريخية الكبيرة دون أن ينغمس المبدعون فيها، فرأينا العدوان الأمريكي على العراق عام 1991 ، ثم اندلاع  إنتفاضة الأقصى عام 2000 ، و أخيراً و ليس آخراً العدوان و الغزو الأمريكي على العراق عام 2003، و ما تلاه من صفحة مقاومة جعلت الحرب التي خطط الغزاة لجعلها خاطفة و سريعة تستمر حتى اليوم أي سبع سنوات كاملة لكن دون مواكبة فنية كافية.

تشكل الحرب لحظة فارقة في حياة الشعوب ، ففيها تختل كل أنظمة الحياة و القوانين و الأخلاق . في الحرب يصبح الموت هو القاعدة و الحياة هي الاستثناء ، فيفقد هيبته كما عبر أحد الشعراء الشعبيين العراقيين "لكثرة ما يروح ويرجع الموت، ما ظلّت بعد للموت هيبه"!               الموت في حالة الحرب لا يعود موت الآخرين كما يفكر الإنسان السوي في حالة السلم ، بل يصبح موت الذات ، كما يشرح فرويد الذي خصص كتاباً كاملاً لشرح سيكولوجية الناس أثناء الحروب " أفكار لأزمنة الحرب و الموت " . و هذا التبدل في النظرة نحو الموت يتبعه انقلاباً سيكولوجياً هائلاً في الشخص ، فتتبدل شخصيته و نظرته للحياة ، كما أن البنية الطبقية و الاجتماعية المنضدة بدقة خلال عشرات و أحياناً مئات السنين تنهار تحت قصف المدافع ، فيصعد أناس و يهبط آخرون ، و تتبدل القيم الاجتماعية ،فتنهار قيم لتحل مكانها أخرى جديدة ، بعض الناس يستوعبونها و آخرون يشعرون بالغربة نحوها ، لذلك تٌعد الحروب منجما لا ينضب للقصص و الحكايات و لتنوع الشخصيات فهي توفر مادة فنية ضخمة يبحث عنها المبدع الحقيقي لكتابة أشعاره و قصصه و رواياته .

 لقد عرف التاريخ شعراء و كتاباً بنوا مجدهم الأدبي على هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الشعوب ، و نذكر  في هذا السياق زهير بن أبي سلمى و الحرب التي وصفها في معلقته الشهيرة ، كما المتنبي و تأريخه لحروب سيف الدولة ، و كذلك الشاعر أبي فراس الحمداني  .و كتب تولستوي أهم أعماله الأدبية عن الحرب سواء الحرب العالمية الأولى  ، أم حروب القوقاز ، كما كتب همنغواي عن الحرب الأهلية الاسبانية ، و بنى لوركا جزءاً من أسطورته عبر مشاركته في تلك الحرب و تصفيته بالطريقة الوحشية المعروفة . و بقيت أعمال ميخائيل شولوخوف عن الحرب الأهلية الروسية بين البيض و البلاشفة علامة فارقة في تاريخ الأدب الروسي .و هنا نكتفي بمجرد ضرب الأمثلة لأنه لا مجال للتعداد . تقول المقولة الشهيرة إن الحروب تنتج أغنياء ، و أيضاً : شعراء ، و مغنين ، و كتاباً  .

مر على بدء صفحة الغزو الأمريكي للعراق وحرب الأنصار التي اندلعت بعد ثلاثة أسابيع من الحرب النظامية عام 2003 و حتى اليوم سبع سنوات إلا نيف . و هي فترة زمنية أطول من مدة الحرب العالمية الثانية . و إذا استعرضنا الأرقام الخاصة بهذه الحرب لاكتشفنا ضخامتها فقد استُشهد مليون و نيف من العراقيين ، و سقط عشرات الآلاف بين قتيل و جريح من الأمريكان . كما شارك مليوني جندي أمريكي منذ عام 2001 في حربي العراق و أفغانستان و منهم حوالي 800 ألف أُرسلو إلى ميادين القتال أكثر من مرة. و هُجر أربعة ملايين عراقي عن أماكن سكناهم، كما بلغت تكلفة المجهود الحربي الأمريكي تريليونات الدولارات ، و عُدت هذه الخسائر سبباً أساسياًَ من أسباب الأزمة الاقتصادية الأمريكية . لقد غيرت هذه الحرب ميزان القوى الدولي لصالح القوى الصاعدة على حساب الولايات المتحدة، فرأينا تبدلات في العلاقات الدولية تشير إلى بزوغ عالم متعدد الأقطاب .

 إن ما سبق ذكره يشير إلى أن الحرب التي يشهدها العراق هي حرب عالمية بأدواتها و نتائجها.و أمام حرب عالمية كهذه استطالت سبع سنوات ألا يحق لنا أن نتساءل أين الإبداع الفني و الأدبي المواكب لها ؟ و إذا وسعنا الصورة قليلاً لوجدنا أن مساحة المشرق العربي تشهد هي الأخرى حروباً صغيرة و أحياناً كبيرة ، و بالتالي فإن حوالي سبعين مليوناً من السكان يعيشون في أجواء الحرب أو التهديد بها ،فهم إما ساكنون على الجبهة أو في خطوطها الخلفية ، و قد تمتد الجبهة نحوهم في أية لحظة ، و في كل الأحوال فإن أكلهم ، و معاشهم ، و زواجهم ، و إنجابهم ، و مجرد بقائهم على قيد الحياة مرتبط بهذه الحرب و نتائجها . فأين الإبداع الفني : شعراً ، و نثراً ،و غناءً ؟

مشغولون بضرب المزاهر عن قرع الحوافر

في محاولة للإجابة عن سؤال كبير " أين أدب المقاومة " الفلسطيني كتب الكاتب أسامة العيسة مقالة مميزة في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 16 يناير 2008 العدد 10641                  يرصد  الكاتب ظاهرة غريبة عند الأدباء الفلسطينيين . يقول:

(( منذ مدة ليست بالقصيرة، تحول مصطلح «أدب المقاومة» إلى شيء كريه يجب تجنبه بالنسبة لأجيال أدبية فلسطينية مختلفة، حتى أن من أطلق عليهم في الستينات «شعراء المقاومة»، وبنوا شهرتهم على ذلك باتوا يتهربون من التصاق هذا الشعر بهم، مثل محمود درويش، الذي يواصل تألقه الشعري بعيدا عن أية قوالب، ومثل سالم جبران، الذي توقف عن قرض الشعر. هذا عدا أن بعض من أطلق عليهم «شعراء المقاومة» لهم خياراتهم السياسية، التي قد تكون بعيدة كثيرا عن المفهوم التقليدي والشائع عربيا لما يسمى «أدب المقاومة». .......))

و امتدت ظاهرة القرف من " أدب المقاومة " ،و إدارة الظهر لآلام الشعب الفلسطيني الذي يقاتل ، و يتشبث بالأرض ، و يَسطُر منذ مائة عامة ملحمة مقاومة عز نظيرها في وجه آلة عسكرية جبارة  ، و في ظل تآمر عربي رسمي و دولي على هذا الشعب الذي يستحق اسم شعب الجبارين ، و ما ملحمة الأنفاق التي يسطرها هذا الشعب في غزة إلا مثل واحد لا يستنفذ الموضوع ، و لو أن أديباً شاعراً أو كاتباً التقط  هذا الفعل المقاوم الذي يقترب من الإعجاز لأنتج فناً أدهش البشرية. امتدت هذه الظاهرة ( ظاهرة القرف و إدارة الظهر لآلام الشعب ) إلى مثقفي الوطن العربي ، فرأينا بعض من أطلق عليهم شعراء المقاومة في لبنان يتنصلون من هذه التسمية، بل اعتبرها أحدهم شتيمة ، و عبر عن امتعاضه الصريح عندما ذكرتها أمامه أواسط التسعينات في صدفة جمعتني به . يفسر الكاتب أسامة العيسه ذلك بالقول :

((و فسر أحد الكتاب اليساريين ذلك، بالإشارة، إلى أن الكتاب والنخب الثقافية المحسوبة على اليسار، ومن بينها الجبهة الشعبية، وجدت نفسها في المنظمات غير الحكومية، ورهينة للمانحين، الذين يفضلون أعمالاً أدبية وفنية وأفلاما تسجيلية وأبحاثا ونشاطات، تتعلق بمواضيع مثل الجندر، ونشر الديمقراطية، وتمكين المرأة، وغيرها من عناوين عامة، ضمن اجندة لا يمكن أن يكون الحديث عن المقاومة، مجرد حديث، ضمن اجندتها )) .

و ما كتبه أسامة العيسه عن الساحة الفلسطينية يمكن تعميمه على مساحة الوطن العربي ، كما يمكن أن يصلح أساساً لتفسير غياب أدب المقاومة عن الساحة الأدبية في المشرق العربي . و يلاحظ  السيد طه المتوكل رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين أنه " في العقد الأخير من القرن العشرين تأثرت التجربة الإبداعية في فلسطين بثلاث زلازل أثرت على خطابنا الثقافي والاجتماعي،و يتعلق الأمر بانهيار الإتحاد السوفياتي وماله من تداعيات على حركات التحرر ، حرب الخليج الثانية التي انتصرت فيها القطرية على القومية بالإضافة إلى زلزال مدريد وأوسلو. وما اكتشفته خلال الدراسة التي قمت بها على الكتابات الشعرية التي جاءت بعد ” أوسلو” هو أن معظم الشعراء الشباب اتجهوا إلى الهامشي والذاتي ، حتى الشعراء الكبار على غرار محمود درويش وسميح القاسم أصابهم ما أصاب الشعراء الشباب "
( حديث للإذاعة الجزائرية)

  و ما لم يقله المتوكل أن ذلك تم استجابة لشروط المانحين الذين خلقوا جواً عاماً يستحيل تجاهله على من يبحث عن الاعتراف . و هو ما يقوله العيسه :

 (( استنكاف الكتاب في فلسطين عن خوض غمار الكتابة عن المقاومين، هو خشيتهم، من «طردهم» من زمر الأدباء والفنانين المكرسين، الذين ينعتون أي كاتب يمكن أن يكتب عن الوطن بـ «الوطنجي».

وفي مثل هذه الظروف، فإن عشرات من الكتاب يكتسبون اعتراف الآخرين بهم بصفتهم كتابا، حتى لو كان رصيد الواحد منهم مقطوعات نثرية تتضمن مفردات رائجة، مثل الجسد، والايروتيكا، والنبيذ، والمرأة، والمدينة..الخ، في حين أن أي أديب موهوب سيعيش ويموت مغمورا، إذا خاض الغمار الصعب وعبر عن نفسه، مثل الشاعر حسنين رمانة، الذي لا يرد ذكره أبداً كشاعر، لانه ببساطة جعل من حياته وقصيدته شيئاً واحداً. ))

فإذا وسعنا دائرة البيكار لتشمل مساحة المشرق العربي ،الذي يعيش منذ سبع سنين حرباً مستمرة ، بعضه يعيش على الجبهة و آخرون في الخطوط الخلفية ، لكن الحرب مست حياة الجميع ،كما قلنا ، فلن تجد كبير اختلاف و يمكنك أن تدخل إلى أي مكتبة كبيرة في بيروت و تخرج منها بحمولة شاحنة صغيرة  من روايات الايروتيكا و الجسد و النبيذ و الشذوذ الجنسي ( الذي بات بعض المثقفين يستنكف تسميته شذوذاً لأن هذه التسمية بعرف المانحين الغربيين عبارة غير ديمقراطية ،إلغائية ) و جلها لكاتبات . لكن لا تبحث عن روايات تناقش تجربة الحرب لأنك لن تجد ( على حد علمي ) سوى رواية إنعام كجه جي " الحفيدة الأمريكية "، و مجموعة قصصية لكلشان البياتي ، و الأخيرة نشرها الناشر ليس بصفتها من أدب الحرب أو المقاومة إنما ضمن سلسلة أدب نسائي ، فمرت .

فإذا أبديت امتعاضك من انتشار الإيروتيكية و الإهتمام بالجسد بهذا الشكل ردوا على الفور بتذكيرك بالتراث :" رجوع الشيخ إلى صباه " ، و النفوشي  ، و ببلاط هارون الرشيد ، و خمريات أبي نواس ،و غيرها من الكتب التي أغرقت دار نشر شهيرة السوق بها في أعقاب تحطيم العراق على يد الأمريكان عام 1990 ( هل كان هذا الإغراق عفوياً؟ ) ، ثم قدموا أنفسهم استمراراً لذلك التراث الذي لم يكن يخجل من تسمية الأشياء بمسمياتها ، كما يتبجحون ، و بعدها يبدون امتعاضهم من تراجع مساحة الحرية و التسامح في الفكر العربي المعاصر تحت ضغط الأصولية . متناسين أن وظيفة و أدوات شاعر يقرض الشعر في بلاط هارون الرشيد ، الذي كان يحكم العالم من الصين إلى بواتييه ،لا تصلح لشاعر يغوص أبناء أمته في الوحل ، و تتداعى على أمته أمم الأرض كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، فما يصلح فنياً و أخلاقياً و إنسانياً لكتاب بغداد في ذروة مجدها لا ينفع لكاتب يعيش شعبه تحت القصف و النهب و تخب الجيوش المحتلة في أراضيه .

قالت العرب : لكل مقام مقال . فهل يعقل أن تدخل إلى مجلس عزاء و تبدأ برواية ما تحفظه من نكت و أحداث طريفة ! أو أن تحدث المجموع عن مغامراتك الجنسية ! و بالعكس هل يمكن أن تذهب إلى عرس فتغني لهم من بكائيات أديب الدايخ . في الحالين سيكون مصيرك الطرد و الضرب . و هنا أقول لكم و على مسؤوليتي الشخصية : أرجعوا بغداد ، أو القدس ، أو دمشق مركز الكون و اكتبوا ماشاء لكم عن تجاربكم الايروتيكية . اكتبوا مجلدات عن رجوع الشيخ إلى صباه .

دُعي سيف الدولة إلى حفلة فاجاب على الفور " مشغول بقرع الحوافر عن ضرب المزاهر "

 

 

ثانية أين أدب المقاومة

قيل الكثير في مشروع المحافظين الجدد الذي بدأ التحضير له في عقد التسعينات قبل أن يستولي على السلطة عام 2000م. و ككل المشاريع الكبيرة في التاريخ سواء كانت سلبية أم ايجابية ، خيرة أم شريرة ، لابد لها من غطاء ثقافي ، فالمصالح الإقتصادية و السياسية كالبشر لا تمشي في الشارع عارية . بل تتجمل بالملابس و المكياج و قصة الشعر . و مشروع المحافظين الجدد ،الذي بدأ التحضير الجدي له في عقد التسعينيات من القرن العشرين ، لا يشذ عن هذه القاعدة ، و بما أنه مشروع كوني فهو بحاجة لمثقفين من كل الديانات و الأعراق و القوميات ، و قد استطاع أن يقيم مرتكزات له في كل بقعة من بقاع الأرض لأسباب يطول التفصيل بها ، لكن يمكن الإشارة إلى إغراء نمط الحياة الأمريكي على البشر من كل عرق و لون ، و جاذبية الوهم و ليس الحلم الأمريكي و قدرة هوليود على تسويقه ، و أيضاً الفراغ الايديولوجي بعد انهيار الإتحاد السوفييتي الذي كان يجسد بشكل أو بآخر حلماً من أحلام العدالة و المساواة بين البشر . و في تفصيل خاص بالمنطقة العربية نجد أن تدمير العراق لعب دوراً كبيراً . و أخيراً الأسباب الانتهازية .

جند المحافظون آلاف المثقفين من كل الجنسيات و الأعراق و الديانات لخدمة مشروعهم الكوني الذي لم يكن يتجمل بهم لأنه مشروع مفضوح ، بل كان يكذب بهم " لا أتجمل بل أكذب " فبول وولفيتز كان صريحاً في اجتماع أجراه في واشنطن مع مثقفين عرب أواسط التسعينات حين سأله أحد المثقفين العرب عن الديمقراطية التي يريدون نشرها في المنطقة، فرد عليه بول وولفيتز بالقول : إنهم ليسوا مع الديمقراطية بالمطلق ، فهم ضدها إذا أدت إلى الإضرار بأمن النفط ، و بمصالح اسرائيل ، و إذا أدت لصعود الأصوليين .

كما أن المحافظين الجدد لم يكونوا يخفون عدائهم لقيم الثورة الفرنسية المتمثلة بالإخاء و المساواة ، و أيضاً لفلسفة عصر الأنوار ، التي تشيد بالعقل البشري و تعتبره قادراً على معرفة الكون لأنهم يتبنون فلسفة نقيضة تقول باللامساواة بين البشر،و حتمية الفروق،و يرجعون ذلك لأسباب بيولوجية، فالفقير فقير لأن مورثاته منحطة،و شعوب العالم الثالث متخلفة لأن ثقافتها و تكوينها البيولوجي لا يستوعبان التطور.كما أنهم معادون للعقل البشري،فهم يعتبرون أن الكون غير قابل للمعرفة،و هذه الفكرة تحديداً تجدها تتردد في أحاديث كثير من الروائيين و الشعراء الجدد ليبرروا بها انشغالهم بالذاتي الضيق المعزول عن أي بعد اجتماعي ( هل هناك ذاتي معزول عن بعد اجتماعي !) " كتابة ما بعد الحداثة عموما تشكك فى قدرة العقل البشري على كشف الواقع بشكل كامل. كثير من الكتاب الجدد لا يسعون لتغيير الواقع ولا يرغبون في محاكاته، بل يحاولون فقط نقل حيرتهم المعرفية أمامه. الوجود بالنسبة لمعظمهم هو وجود إشكالي، هش، ومراوغ. والواقع نفسه غير منجز أو بالأحرى غير متفق عليه، فهو ليس فقط ما نراه بأعيننا ونعيشه بوعينا، بل هو أيضا جماع أحلامنا وكوابيسنا وهلاوس لاوعينا." ( الروائية المصرية منصورة عز الدين – السفير الثقافي الجمعة 25-12- 2009 ) .

 كان العَقد المبرم بين المحافظين الجدد و المثقفين من شتى الجنسيات و العراق و الديانات  خاصة من العرب عقداً نصوصه واضحة يدعو للكذب لا للتجمل ، فالمحافظون الجدد لا يبحثون عن التجمل لأن بشاعة ايديولوجيتهم و تجسيداتها الواقعية لا يمكن تجميلها بلباس أو مكياج و قد خبرناها على أرض الواقع . و استجابة لشروط العقد وجدنا يسارياً سابقاً يتغنى بالفجر البازغ من الفلوجة المقصوفة بالفوسفور الأبيض .

إن وظيفة المارينز  الثقافي في هذه الحالة مثل وظيفة البالونات الحرارية التي تطلقها الطائرات الحربية حين تتعرض لصواريخ أرض جو التي تنجذب للحرارة ، فبدل أن يذهب الصاروخ إلى هدفه الحراري الأصلي ، الطائرة المقاتلة ، فيصيبها . يتم تشتيته بهذه البالونات ليذهب إلى أحدها . بدل أن يتجه جهد لشعوب لاسقاط لمشروع الاستعماري للمحافظين الجدد يطلق هؤلاء المثقفون بالونات حرارية مثل : الجندر ، و حرية الجسد ، و الايروتيكا ............الخ . أو يمكن تشبيههم بساتر دخاني يحاول حجب الشعوب عن رؤية الحركات الحربية للمحافظين الجدد .يقول الكاتب العراقي سلام عبود :

(( أن المهمة الأساسية العاجلة لجهاز مساندة مشاريع الإحتلال تتمثل في إيجاد بؤر موثوقة ( مشتراة), هدفها إقامة منظومة ثقافية, تقوم بمهام التصدي الفوري لكل ما يعترض طريق مشاريع الاحتلال الحربية والسياسية..........
وعلى الرغم من أن المشروع السياسي والثقافي الأميركي لا يملك موطئ قدم قديم وثابث في العراق, إلا أن السنوات التي سبقت غزو العراق شهدت حركة متسارعة لتجميع المريدين لهذا المشروع. وقد أسفر هذا السعي عن إنشاء مواقع عديدة في صفوف المثقفين, من خلال بعض الصحف ومراكز الأبحاث والهيئات السياسية والاجتماعية والأفراد....))1

و في مكان آخر يقول الكاتب :

 (( مع تدفق القوات الأجنبية على العراق تدفقت معها مقالات الكتاب العاملين في جهاز الإعلام الأميركي, وسار خلفهم وأمامهم وبين أرجلهم عدد لا يستهان به من المواهب الجديدة, ممن ولدوا فنيا على دوي قصف الطائرات........ )) 2

و يتابع :

(( عدّة هذا الفريق محددة ومقننة: الصراخ دفاعا عن الأعمال الحربية, الدعوة الى دك المدن, تبرير عمليات استباحة الأحياء والشوارع, تمجيد دور "الشرطة الوطنية"و"أجهزة الأمن والاستخبارات" في الكفاح من أجل الديموقراطية وبناء الثقافة الحرة, زرع مفاهيم التحلل السياسي والنفسي والاجتماعي والأفكار العدمية تحت شعار النفعية السياسية ونظرية "كل ما هو مربح مشروع وأخلاقي", تمجيد أعمال الاعتقال وهتك الأعراض, التهليل لمشاريع مد الحرب الى دول الجوار, تمجيد عناصر القوة الطائفية والعرقية والعشائرية, التحريض على قتل وقمع الصحافيين والإعلاميين الذين لا يناصرون سياسة الاحتلال, التستر على أعمال النهب الثقافي والاقتصادي, حماية ظهور الغزاة.)) 2

و بدل المثقف المقاوم و الكاتب المقاوم و الشاعر المقاوم حصلنا  بتعابير الكاتب سلام عبود على المثقف و الشاعر و الكاتب الكونكرتي .

إن شخصيات الكتاب و المثقفين في دراما العراق واضحة وضوحا مؤلماً بحكم أنها الجبهة الأساسية للحرب لكنها ليست كذلك في الخطوط الخلفية فهي ممددة بماء الحياة، لكن ما إن يدخل أحدهم في الدراما العراقية حتى يجف الماء الذي يمدده و يصير واضحاً. و أنا أعتقد ان أهم حدث كشف حقيقة الوسط الثقافي هو علاقة هؤلاء الأشخاص بأحد متعهدي الإحتلال الثقافي ،الذي ينظم مهرجاناً سنوياً في العراق ، ففي عام 2005 – 2006 اضطر الغازي الأمريكي للزج بكل احتياطياته العسكرية و السياسية و الثقافية كي يكسب المعركة التي ما زال يعتقد أنه يقدر على كسبها ،فرأيناه ينشأ فرق الموت في العراق ، و يشن حرب إبادة على المدن العراقية المقاومة مستعيناً بالنموذج الذي طبقه في الفلوجة ، و يوقظ خلاياه النائمة ، كما استعان بالكيان الصهيوني ليعدل الميزان العسكري الذي اختل في المنطقة لغير صالحه عن طريق الجبهة اللبنانية ، و أيضاً استنفر جبهته الثقافية طالباً من الجميع أن ينفذوا ما اتفق معهم عليه منذ أواسط التسعينات ، و كان هؤلاء المثقفون ما زالوا مؤمنين بقدرة المحافظين الجدد على الفوز بالمعركة فهبوا لنجدته بذريعة  مهرجان ثقافي في أربيل علّهم يجملون المشروع الإحتلالي . و تنطح شاعر كان و ما زال يرأس القسم الثقافي في جريدة ولدت مع المقاومة الفلسطينة في سبعينيات القرن الماضي و اعتاشت على هذا الخط  لإلقاء كلمة باسم المثقفين العرب ليعلن سعادته بأنه يطأ أرض العراق المحتل . يقول :

((هذه أول مرة أطأ فيها ترابا عراقيا وأنا سعيد لأن انتظاري كوفئ اخيرا وها انا الان من هنا ...))

كأن هذه العبارة قالها أحد الجنرالات من صقور المحافظين الجدد .

كل الحروب ينتج عنها جواسيس و عاهرات و متعاملين مع المحتل . لكن المفاجيء كان حجم الحشد الكبير الذي تواجد في أربيل و قيل يومها إن عددهم ثمانمائة مثقف يتوزعون بين كاتب ، و شاعر ، و مثقف ، و صحافي ، و ناشر . و هؤلاء يملؤون صحافة و دور النشر البيروتية و غيرها من العواصم العربية و المهاجر . و المجتمعون في أربيل هم من يحدد ما يصلح للنشر في الصحف و في دور النشر و ما لا يصلح ، و هم الذين يضعون المعايير الفنية ، فيحددون الرواية التي تستحق النشر ، و القصيدة الجيدة ، و من هو المثقف ، و من هو المفكر ....الخ . هؤلاء الذين اجتمعوا في أربيل يسيطرون سيطرة شبه مطلقة على عالم الصحافة و النشر في العالم العربي . فهل نتوقع أن نقرأ في المنابر التي يسيطرون عليها أدباً مقاوماً !

و لم يقتصر الأمر على التعامل المباشر مع المشروع الاحتلالي كما حدث في مهرجان أربيل ، بل إن الأمر أكثر تعقيداً بكثير ، فهناك النشاطات و الندوات التي تمولها المراكز الثقافية الغربية المختلفة ، و بعضها لدول ليس لها سمعة استعمارية سيئة  مثل الدول الاسكندنافية ،و هي في التحليل النهائي لها وظيفة في استراتيجية الاختراق و السيطرة الأمريكية . و هناك صناديق مالية تمول المشاريع الثقافية لها وجه عربي لكنها من الباطن ممولة من مؤسسات غربية ، و أيضاً مؤسسات مانحة امريكية . و هذه المراكز الثقافية ، و الصناديق ، و المؤسسات المانحة الأمريكية تمول مشاريع نشر ، و ندوات ، و مهرجانات ، و تُنشأ جوائز أدبية لكن بشروطها الخاصة الناعمة ، فهي على سبيل المثال قد لا تطلب منك أن تشتم المقاومة أو تشيد بالاحتلال كما فعل المشاركون في المهرجان الأربيلي . إنما تطلب منك أن تتكلم عن مواضيع محددة ، فهي تمول نشر سلسلة للأدب النسائي ، أو تقترح على دار نشر ما أن تنشر اعمالاً لكتاب غربيين محددين ، و هؤلاء بالتأكيد لن يكونوا من نقاد الحضارة الغربية أو المعادين لمشاريع الاحتلال و النهب الامبريالي ، فعلى سبيل المثال لن تمول السفارة الكندية أبداً ترجمة كتاب للكاتبة الكندية نعومي كلاين . و لن يمول المركز الثقافي الفرنسي نشر كتب غارودي ......الخ . و على أية حال بلغ الإفساد الأمريكي لذمم الكتاب و الصحافيين حد دفع رشى مباشرة كما في فضيحة شركة لينكون غروب التي كانت تنشر قصصاً إيجابية ، و  رسائل موالية لأمريكا في وسائل الإعلام العراقية بميزانية تقدر بـ30 مليون دولار . إضافة إلى إعلانات  من نفس النوع في بعض المحطات الفضائية العربية .

و في المحصلة يتم إنشاء جو ثقافي وهمي لا يعبر عن الواقع بأي شكل من الأشكال ، و يتم إنشاء طلب على ما ينتجه مثقفو الإحتلال ،لأن القانون الرأسمالي  التقليدي الشهير الذي يقول " العرض تابع للطلب " ، و الذي يتبجح به كل منتجي الرداءة في العالم العربي ، و يجد تعبيره في العبارة المصرية الشهيرة "الجمهور عاوز ده " ،و استخدمته قبل أيام إحدى الناشرات اللبنانيات في دفاعها عن رواية ايروتيكية نشرتها دار نشرها ، التي لا يكف صاحبها الآخر عن نشر المقالات المؤيدة  للمقاومة  في حين أنه منخرط بنشر الروايات الإيروتيكية و تعتبر دار نشره معقلاً لروايات الاستشراق النسوية  . أليس هذا شكلاً من الفصام بين القول و الفعل ! هذا القانون يتوقف عن العمل و ينعكس في ظروف الرأسمالية الاحتكارية فيصبح "الطلب تابعاً للعرض " فإنتاج السلعة و عرضها يخلق الطلب عليها ، و هذا هو سر الطوفان الإعلاني الذي يعاني منه العالم المعاصر ، فأنت لا تحتاج السلعة لكن الإعلان المتكرر عنها يجعلك تطلبها ، و يقنعك انها ضرورة من ضرورات الحياة. و هذا ما يحدث في عالم الثقافة فالإعلان عن جوائز أدبية معروف مسبقاً أن الرواية التي تطمح للفوز  يجب أن لا تتكلم عن الاحتلال،و أن لا تكون عن المقاومة ( أي لا تكون قومجية أو وطنجية بتعابيرهم )،و أن فرصتها تكون كبيرة إذا كانت ايروتيكية ، أو مفصلة حسب المقاييس الغربية المطروحة في السوق بما تتضمن من تصغير القضايا الكبيرة و تكبير القضايا الصغيرة،فتصبح الكتابة عن الجندر أهم من الكتابة عن فلسطين،و الكتابة عن قضايا الشاذين جنسياً بدعوى الكتابة عن الهامشي أهم من الكتابة عن المهمشين اجتماعياً و سياسياً . و لأن العالم غير قابل للفهم - كما يقولون - تصبح كتابة التهويمات التي لا توصل أي فكرة للمتلقي هي المطلوبة،و أخيراً و ليس آخراً هناك وصفة للرواج التقطها كتاب عرب من هوليوود التي تقدم كل عام إحدى جوائز الأوسكار لفيلم يدور عن الهولوكست أو يضم شخصية اليهودي الطيب .التقط هؤلاء الكتاب وصفة النجاح هذه من هوليوود فصاروا يقحمون في رواياتهم شخصية اليهودي الطيب .

إن الطلب المتزايد بفعل العرض و الترويج الكثيف على هذا النوع من الروايات و الشعر يوجه أنظار الكتاب الشباب إلى هذه الوصفة،فيدربون ذهنهم و قلمهم ، و تتبلور رؤيتهم للعالم للكتابة بطريقة محددة وفق الوصفات المطروحة بالسوق . و إذا حدث و كتب أحد الكتاب رواية أو قصة بوصفة غير تلك الوصفة المطروحة في السوق ، فسمى الاحتلال احتلالاً ،و سمى ما يجري في العراق غزواً و ليس تحريراً . و لم يكن يؤمن بانتهاء السرديات الكبرى،و كان يؤمن بقدرة العقل على معرفة الكون،فكيف سينشرها إذا كان أغلب دور النشر تنشر بتمويل غربي وفق وصفات محددة ذكرناها ، ثم هل سينشر  رئيس الصفحة الثقافية ،الذي سمى الاحتلال تحريراً ، خبراً عن روايته ، أم هل سينشر مراجعة لها ؟ و إذا استطاع نشرها فهل سيجد ناقداً من الذين ذهبوا إلى المهرجان الأربيلي يراجعها و يقدمها للقاريء!

من أين سيمر أدب المقاومة في هذه الأجواء  ؟

كما في قانون الحياة الخالد الذي يعبر عنه راوؤل كاسترو بكلمته الشهيرة : " بحزب بدون حزب لا يمكن للثورة أن تنتظر " فكذلك نقول : بمثقفين بدون مثقفين سينتج الشعب المقاوم أدباً مقاوماً إنما بشروط فنية أقل،و بأشكال لا تحوز الإعتراف.يرصد الكاتب أسامة العيسه أشكالاً من الأدب المقاوم المُنتج في هذه الظروف . يقول :

((و في ظل غياب مثقفي الفصائل الفلسطينية، عن هذا الميدان، فإنه ترك للهواة من المتحمسين، أولاً للقضية الوطنية، وثانيا للفن والأدب. ويمكن تلمس ذلك من الكم الهائل من الأغاني التي كتبت باللهجة الفلسطينية، ووضعت لها ألحان بسيطة، لكنها شجية، توقف فيها أصحابها عند محطات مهمة في انتفاضة الأقصى، ووصل هذا النوع من الفن إلى التداول في الدول المجاورة مثل الأردن أو سورية.

وهكذا وجدت أغان تمجد قادة المقاومة الميدانيين، الذين سقطوا شهداء، في معارك غير متكافئة، وكان كل منهم يعرف بأنه مثل سيزيف يحمل صخرته ويواصل المسير.))

و يتابع  الكاتب ظاهرة تحول المقاومين الميدانيين إلى كتاب لسيرهم الذاتية في السجون الاسرائيلية :

((  وإذا كان المثقفون أصحاب الأصوات المرتفعة في السابق، مبشرين بالاشتراكية والعدالة والتحرر، غيروا بوصلتهم بشكل حاد، فإن الأراضي الفلسطينية شهدت ما اعتبر ظاهرة جديدة، تتعلق بلجوء بعض المقاومين أنفسهم إلى كتابة سيرهم الذاتية، رغم عدم امتلاكهم لأدوات الكتابة الفنية، في حين أن الأمر في السابق كان لا يتورع عنه بعض الكتاب الذين تم تكريسهم بسبب كتابة سير مجموعات المقاومة مثل توفيق فياض، الذي اشتهر لروايته شبه التسجيلية لمجموعة مقاومة ضمت شباناً من عكا.

هذه السير كتبها معتقلون داخل السجون الإسرائيلية، بعد أن صدرت بحقهم أحكام بالمؤبدات، وكثير منها كتبت لاهداف قد لا يكون الإبداع من ضمنها مثل، «أن تكون مرشدا للشبان الفلسطينيين، كي لا يقعوا فرائس سهلة لرجال المخابرات الإسرائيلية»، أو «التعلم من الأخطاء التي وقع فيها المقاومون». ))

و بالطبع فإن هذا الأدب لن يكتسب اعتراف المؤسسة الأدبية الرسمية التي يتنكب زعامتها أربيليون ، أو ممولون من مؤسسات غربية ، و يضرب الكاتب أسامة العيسه مثالأً على ذلك بحسين أبو رمانه الذي لا يرد ذكره كشاعر أبداً  "ورغم انه أصدر ديواناً شعرياً خلال فترة مطاردته، إلا انه لم يحظ باهتمام نقدي حتى ولو كان نسبيا. وهو أمر ليس له علاقة بالمستوى الإبداعي لشعره، ولكن لشيوع موجات أدبية أخرى في الأراضي الفلسطينية. "

و في العراق ترصد صحيفة "ميامي هيرالد " أن موجة من الأغاني الجديدة انتشرت بقوة في العراق تدعو لمقاومة الاحتلال، ويشدو بها مطربون أطلق عليهم "مطربو المقاومة"، ويطالبون فيها العرب بالوحدة في وجه أمريكا، وتحمل مضمون العداء للغرب."

و إذا كان أغلب هذه الأغاني لايرقى إلى مستوى فني عالي إلا أنها اقتربت من مأساة شعبها فأبرز الفيديو الكليب المرافق ، و المنتج بشروط فنية بسيطة ،صور الدمار و قصف الطائرات . و دعت هذه الأغاني إلى التوحد و نبذ الفرقة  والطائفية ، كما حرضت على مقاومة الغازي . و كذلك انتشر شكل فني جديد يحار المرء كيف يصنفه ، فانتشار الهاتف النقال قدم وسيلة جديدة مهمة للتعبير عن الأفكار و لنقلها إلى الناس ، فهذا الجهاز الصغير يعطيك فرصة التقاط مشاهد و صور من الحياة ، و إنتاج مقاطع فيديو كما في المقطع الشهير الذي تم تداوله على البلوتوث و يُظهر وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس مع صور مجموعة من الزعماء العربية ، و تم دمج هذه الصور مع أغنية نانسي عجرم " يلي بيسمع كلمة أمه شو منقول له " . كما أن رسائل الـ sms صارت وسيلة  هامة  و قد تم رصد كثير من هذه الرسائل التي يتداولها العراقيون منها هذه الرسالة التي تحض على التوحد و نبذ التفرقة ، و هي عبارة عن محاورة بين أحد الذين جاءوا على ظهر الدبابات الامريكية و عراقي أصيل و تبين لعب الأول على اوتار الطائفية و اصرار الأخير على وحدة العراق بكافة قومياته و مذاهبه. تقول المحاورة :

كلي (قل لي )سني لو ( أو )شيعي ؟ كتله( قلت له ) عراقي بصوت عالي
· كلي زين عربي لو كردي ؟ كتله من الفاو لزاخوا بلادي
· كلي من عنوانك اعرفك ؟ جاوبتة انباري وكوتاوي
صح بصراوي بس بالحلة وعماري واصلي مصلاوي
* كلي لعد من اولادك اشخصك ؟ كتله ولدي عموري
وحسين وابوبكر وعلاوي.....
* كلي وين تصلي وهية اتبين؟ كتلة اصلي بالخلاني
واتوضئ بماي الكوفة ومن النعمان اسمع اذاني واول
ركعة بموسى الكاظم وثاني ركعة بالكيلاني.....

و بالطبع فإن مؤلفي هذه الرسائل و مقاطع الفيديو كليب مجهولون .

و لا تقتصر المقاومة على هذه الأشكال الفنية البسيطة بل يتدرج الأمر صعوداً إلى أشكال أنضج و واضحة المعالم، فقد دخل الإنشاد الديني في العراق على خط المقاومة منذ انطلاقتها . في مقابلة مع صحيفة العرب القطرية بتاريخ2008-05-03  أجراها الكاتب إياد الدليمي مع المنشد ثائر البغدادي ، الذي تحول صوته إلى رفيق للعمليات المصورة التي تبثها فصائل المقاومة . يشرح البغدادي  "أن هذه الأناشيد لعبت دورا هاما في شحذ الهمم واستنهاضها دفاعا عن البلاد " ،و يدعو البغدادي المنشدين للتغني بالمقاومة العراقية.

 كما يغص النت  بقصائد لشعراء شعبيين ، و لشعراء يكتبون بالفصحى يرصدون معاناة شعبهم و يذكون روح المقاومة ، لكن هذه القصائد و هؤلاء الشعراء محاصرون و ممنوعون من الوصول إلى الجمهور الواسع ،و لا يهتم بهم لا الصحف و لا النقاد لأنهم " قومجيين " أو " وطنجيين " و هم يقدمون " سردية كبيرة " في عصر موتها !

أنتج ظهور وسيلة تعبير جديدة مشتقة من النت هي البلوغ blog أعداداً كبيرة من المدونين أشهرهم فتاة من بغداد حرصت على ابقاء اسمها الحقيقي مجهولاً و أطلقت على موقعها اسم منعطف النهر " RIVERBEND "

بدأت هذه الشابة التدوين باللغة الإنكليزية في الشهر الثامن من عام 2003 ، عام احتلال بغداد ، واستمرت بذلك حتى عام 2007 ، حيث اضطرت هي و عائلتها إلى مغادرة بغداد إلى دمشق . استطاعت هذه الشابة نقل الحياة اليومية في بغداد المحتلة ، كما نقلت نبض الناس بطريقة فنية راقية ، فلم تغفل تفصيلاً من التفاصيل ، الصغيرة أو الكبيرة ، إلا و سجلته ، من غياب الأمن ، إلى تحكم المليشيات بحياة الناس ، إلى فقدان المواد البسيطة ، و العيش بدون كهرباء أو ماء . تقول عن فقدان الماء " الماء مثل السلام لا تدرك أهميته حتى تفقده ..... استغنينا عن الديمقراطية ،استغنينا عن السلام ، و حتى عن الكهرباء ، فقط أرجعوا الماء"  . و في مكان آخر تتحدث عن التهديدات بحرمان الذين لا يصوتون  من البطاقة التموينية فتتساءل "  ما هو نوع هذه الديمقراطية التي تجبر الناس على التصويت بينما هم لا يريدون ذلك ". و في مكان ثالث تقارن الكاتبة بسخرية بين وضع الأمريكان ووضع العراقيين " بعد 11/9 و بسبب بضعة أشخاص متعصبين . صار الأمريكان مصابين بكره الأجانب . إذاً لم يتوقع الأمريكان من العراقيين بعد كل ما حدث لهم بسبب الإحتلال أن يكونوا متسامحين و شاكرين ؟ " و تجيب ساخرة  "لأننا نأكل كمية أكبر من القمح في غذائنا "

حازت ريفرباند على شهرة واسعة لكن في الأوساط الغربية المناهضة للحرب ، فنُشرت يومياتها بثلاثة كتب بالإنجليزية، وجرى تحويلها إلى مسرحيات عرضتها المسارح العالمية، وقدّم لها عدد من أشهر نجوم السينما والأدب  . و كان من المنطقي ان تترجم إلى اللغة العربية  بعد الشهرة الواسعة التي حازتها المؤلفة في الصحافة الغربية، لكن ذلك لم يحدث رغم أن دور النشر العربية تسارع لترجمة أي كتاب يحصل على شهرة في الغرب ! فظل القراء العرب محرومين من هذه الوثيقة النادرة عن الحياة اليومية في بغداد تحت الإحتلال .

 

 

 

 

 

 

 

 

أدباء ضد الحرب لكن في معسكر العدو

تكتمل مفارقة غياب أدب المقاومة ، و الأدب المناهض للحرب  عند الكتاب و الأدباء العرب ( عدا أصوات يتم خنقها بالتجاهل و الإهمال). تكتمل المفارقة إذا علمنا أن الصورة مختلفة في معسكر العدو . فقد أنتجت هوليوود عشرات الأفلام عن العراق ، فرصدت التحولات التي جرت للجنود الأمريكان هناك ، ففي فيلم " في واد لاه " نشاهد أن صناعة القتل التي تعلمها الجنود في العراق قد حملوها معهم إلى امريكا . نراهم يقتلون زميلهم بشكل وحشي لا مثيل له بدون سبب . كما رصد فيلم آخر مجزرة حديثة التي قامت بها القوات الأمريكية . و رغم أن هذا الرصد تم من وجهة نظر أمريكية تساوي بين المقاومة و الإرهاب ، و أقصى ما يصل إليه خطاب التعاطف الهوليوودي مع العراقيين هو أن يعتبرهم ضحايا صراع الأمريكان و "الإرهابيين " . لكن إدانة الحرب تبقى واضحة في أغلب هذه الأفلام ، كما أن هوليوود تُظهر العاهات النفسية و الجسدية التي عاد بها الجنود من ميادين القتال .

و في ميدان آخر من ميادين الإبداع رصدت السيدة هيفاء زنكنة في مقال لها بصحيفة القدس العربي 19 / 12 / 2009 "  عشرون ألف قصيدة ضد الحرب والاحتلال ـ من يكتبها؟ " نفس المفارقة و هي أن "  القصائد التي نقرأها يوميا عن العراق ونرددها ونقف بجوار صاغتها في امسيات الاحتفاء بقوة الكلمة في وجه توسع هيمنة الامبريالية الامريكية، يكتبها شعراء اجانب. انهم يتابعون يوميات بلادنا فيكتبون بحرقة عن الموت البطيء لنساء واطفال ورجال لم يستنشقوا معهم هواء الوطن الواحد، ولا يعرفونهم الا من خلال انسانيتهم المعرضة للفقدان لانهم لم يستسلموا.... ."

و تذكر الكاتبة أن الشاعر الأمريكي سام هامبل أسس موقعاً اسمه " شعراء ضد الحرب " و هذا الموقع " يضم أكبر انطولوجيا شعرية في التاريخ حول موضوع واحد هو الحرب، ومؤلف موسوعة شعرية تضم ما يقارب ثلاثمئة قصيدة لشعراء أمريكيين مناهضين لسياسة البيت الأبيض في منطقة الشرق الأوسط ومستنكرين فكرة غزو العراق" . يضم الموقع 20 ألف قصيدة ضد الحرب من " شعراء من جميع انحاء العالم يعلنون فيها غضبهم على غزو العراق وافغانستان، فلماذا يرحب بعض الشعراء العراقيين بغزاة حرقوا الكتب واللوحات ونهبوا الآثار؟ لماذا يبررون مسح التاريخ والهوية والذاكرة الجماعية بانها ' اخطاء' ويحيون قوات الغزو بانها 'هذه القوات البطلة' واصفين جنودها بانهم 'يتمتعون بشجاعة شخصية وهم يخوضون القتال في شوارع يجهلون مداخلها ومخارجها، وفي بيئة غريبة عليهم ولا يعرفون لغتها ' وجنودهم 'شهداء عراقيون'؟ ........... كيف يوقعون البيانات ويطلقون التصريحات لـ ' تقديم الشكر والامتنان لقوات التحالف على هذا الإنجاز الكبير'؟ وهل يشمل الشكر والامتنان قتل المليون شهيد ؟ ..."

و بينما يكتب الكتاب العرب عن الجندر و تمكين المرأة و الجسد ( صدرت مجلة في بيروت متخصصة في الجسد و علومه جعلت شعاراً لها ثقب الباب ، أي أنها تتلصص على غرف النوم من ثقب الباب ) ، فيستبدلون شعار " بالدم نكتب لفلسطين " بشعار " بالدولار نكتب للجندر " . عندما يكتب الكتاب العرب عن المواضيع الهامشية ( الايروتيكا ، النبيذ ، الجسد ، الشاذين جنسياً ) ، و يبتعدون عن المواضيع المتفجرة( الاحتلال – المقاومة – الحصار – معاناة الناس ...) تتفرغ الكاتبة اميرة هاس و جدعون ليفي من الخط الاخر للجبهة ، من صحيفة " هآرتس " لهذه المواضيع  المتفجرة ، فيكتبون عن المقاومين و ينقلون سيرهم و يدخلون المخيمات و يرصدون معاناة الناس و الإحتلال و الدمار . تكتب أميرة هاس نصاً طويلاً عن غزة بعد الحرب الوحشية التي شنها الكيان الصهيوني ، فتنقل أراء بسطاء الناس و أمانيهم " خوف و سخرية في غزة ". يقول الكاتب العيسه " وان كان ما يكتبانه عن واقع ثري بالحكايات، لا يمكن تسميته أدبا بالمعنى المتعارف إليه، وبالتأكيد لا يندرج أبداً تحت مصطلح «أدب المقاومة»، وانما ضمن القصص الصحافية، إلا انه حقق الشهرة لهما، ويتم ترجمة كتبهما بانتظام إلى اللغات الأجنبية، ويحلان ضيوفا على عواصم عالمية لتوقيع كتبهما عن الفلسطينيين. "

بالطبع ستتحول أميرة هاس و جدعون ليفي و سام هامبل إلى أصوات للشعب العراقي و الفلسطيني في الغرب إذا كان المبدعون العرب إما ممجدين للمحتل لاعقين لأحذية المارينز ،أو متواطئين مع الاحتلال بارتكاب جريمة الصمت ، أو بجريمة الحديث عن "جمال الفجر الذي يتلو المذبحة" كما يقول بريخت ،و بالتالي فهم إما " مشغولون بضرب المزاهر عن قرع الحوافر " ، أو هم من المارينز الثقافي. فقد رصدت الأخبار ظاهرة الصحفي المرافق " embedded" ، الذي ينام مع المارينز الامريكي في فراش واحد و يتناول  معه الطعام و يرافقه بالمدرعة فيرى العالم من خلال فتحاتها ، فحين يكون المارينز المقاتل يصوب رشاشه تجاه الشارع العراقي من خلال إحدى فتحات برج الدبابة يكون الصحفي المرافق يصوب قلمه . هذا حال المارينز الأدبي العربي .

1-نقد المثقف الشيوعي.. فخري كريم نموذجاً.. تعبئة وتعميم الشر: كلاب بشتآشان!- سلام عبود

http://www.saadiyousif.com/home/index.php?option=com_content&task=view&id=697&Itemid=27

2- النهلستي الأخير! دفاع مع سبق الإصرار عن سعدي يوسف, دفاع عن ذاكرة الوطن – سلام عبود     

http://www.saadiyousif.com/home/index.php?option=com_content&task=view&id=690&Itemid=27

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم