<%@ Language=JavaScript %> حسين عبد الزهرة مجيد صمتُ البحر..!

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

صمتُ البحر..!

 

حسين عبد الزهرة مجيد

 

ها قد عادت النارُ الأولى إلى أثافيها, بعد أن انقطعت, وكادت أن تموت. وقد نكون أولُّ الرواقيين, لنا إنسانيتنا, نستأنسُ, ونتأنسُ بها, وربما عُهِدَ إلينا, فنسينا, وانقطع عنّا الذكرُ سنين وأحقاب. لكن الإنسانية نظامٌ في التفكير يضعُ القيم الإنسانية, وكرامة الناس في المقام الأول, فيأخذُ كلُّ آدميٌ حقه. وقبل اثنين وأربعين عاماً, جاءنا الربيعُ مبكراً, وكأنه يقول إني سأفارقكم بعد اليومَ سنين طويلة. كان الشتاءُ الذي سبقه ثقيلاً, غزّ مخالبه في كل موضعٍ منّا, ولم يحمل لنا غير الخيام. شاعرٌ عاشقٌ من فلسطين, وجميلٌ آخرٌ من بوليفيا, بلا جنسية, غاب ولم يترك لنا غير الدم الُحُر. كنا نبيتُ الليالي على مسامير قلوبنا. رزمنا كل الأسماء في صرة واحدة, وتركناها في المحطّة. حملها القطارُ, ومضى يتلوى حتى غاب في هضاب الأناضول. جاءنا يوماً من ذلك العام جمال حسين عليّ ( هل كان جمالاً؟ لا أدري. نسيت) بكتاب جديدٍ بحجم الكف, عنوانه "صمتُ البحر", لمؤلف غريب اسمه فيركور. قرأناه, وأعدناه.

والحكايةُ تقولُ إن التاريخ الحديث بدأ في الرابع عشر من حزيران, عام 1940, حينما دخلت قوات الويرماخت باريسَ بسلام تام, حينها اشتملت ليالي باريس بلا نهار. سقطت باريس بأيدي النازي, وبعد تسعة أيامٍ وقف الممسوس هتلر أمام عدسات المصورين عند برج إيفل, ليقول إنه أتى لرؤية الفنانين الفرنسيين. أما اللوطي, قائد الجو, هيرمان غورنغ, فقد جاء يحملُ كرشه على عصاه إلى جوي دي بوم, حيث حفظت مقتنيات اللوفر, وصار ينتقي منها ما شاء له, ولخدينه المعوّج هتلر. في تلك الأثناء كان سارتر جندياً, يخدمُ في الأنواء الجوية.

وحينما كان ينتهي من رصد حالة الجو, يبدأ برصد ملاحظاته الفلسفية في دفتر خاص, يصدره بعد ثلاث سنين بعنوان الوجودُ والعدم. كان أمرُ الفرنسيين وجوداً في العدم. وسارتر هو القائل بأن فرنسة بلدٌ فاسد, يدير شؤونه الأغنياء. لا أحد يريد أن يضحّي لأجله, حتى يأتي اليوم الذي ندرك فيه إن النازي أسوأ من أغنيائنا المفسدين. سارت الحياة الباريسية وكأن شيئاً لم يكن. الكتّابُ يكتبون, والموسيقيون الألمان يزورون باريس فرادا وجماعات, فيردّ الموسيقيون الفرنسيون الزيارة فرحين, وكأنهم يريدون أن ينسوا حاضرهم الأسود. وكان يمكن للحال أن تطول لو لم تدخل روسيا الحرب من باب الجليد. حينها فتح الباريسيون النافذة الأولى, ثم جاء ذلك اليوم الموعود من آب 1941, حينما قُتل في محطة قطار المترو, جنديٌ من البحرية الألمانية, فنسي هتلر أمر الفن والفنانين, وأمر بالرد الساحق. وفي خلال تسعة أشهر, أُعدم خمسمائة فرنسيٌ رمياً بالرصاص. ثم كرّت حبات السبحة, فكتب بول إيلوار يقول:" لم تتخل عن باريس مياهُها, ولا عيونُنا. باريس ليست مدينةً صغيرةً, لكنها طفلةٌ, وأمٌ رءوم". وأضاف لويس أراغون يقول: "في ذروة مأساتنا, تجلس إلسا طوال النهارِ أمامَ المرآة.. تسرّحُ شعرَها الذهبيَّ اللّماع.. يُخيّلُ إليّ أن يديها الرقيقتين تُسرّحان اللهيب".

 أصبحت الفرنسية التي تتهم بالنوم مع الألمان, يحلق شعر رأسها, وتقادُ عاريةً في الشوارع. أُعدم الآلاف من الفرنسيين بأيدي رجال المقاومة السرية, منهم الكاتب الكبير روبرت براسيلاك, والعجيب إن آخر الكلمات التي تفوه بها قبل أن يسقط في ساحة الإعدام في السادس من شباط هي: عاشت فرنسة, لها نفسي, وعيوني.  وما حلّ عام 1944, حتى أحرق النازي المنسحب كل القرى التي مر بها, وذبح كل من فيها.

في البداية كان فيركور يقفُ مع المتفرجين على الرصيف, ينظر إلى فرقة الويرماخت تستعرض ظهراً أمام مقر القيادة الألمانية الجديدة في الشانزلزيه. أنظروا إلى هذا الضابط المتبختر على فرسه, يؤدي التحية بسلاح الفرسان. إنه الروائي الألماني المعروف إرنست جنجر. يعود فيركور إلى البيت, ويبدأ بقراءة كتاب جنجر "الحدائق والشوارع", وهو يومياته لأيام الاحتلال. يسحره الكتاب بجمال الوصف, فيبدأ بكتابة شيء جديد لم يألفه الباريسيون, فكانت قصة صمت البحر. وفيركور هذا هو اسم مستعارٌ للصحافي, ورسام الكاريكاتير المعروف جان برولر.

تنازل عن كل شيء, واشتغل نجاراً. استعار الاسم الجديد من المشفى الذي كان يتعالج فيه من قبل في إقليم فيركور الجبلي, الواقع في الجنوب الشرقي من فرنسة. أعطى فيركور القصة إلى صديقه بيير ليسكور لينشرها, وكان هذا عميلاً بريطانياً, له اتصال بصحيفة الفكر الحر, لكن القوات النازية تداهم الجريدة, وتعتقل محرريها. هنا يقرر فيركور وليسكور تأسيس دار سرية للنشر, أطلقا عليها منشورات منتصف الليل. وجدا طبّاعاً مناسباً, ليطبع صمت البحر, ثمان صفحات كلَّ يوم, لا أكثر. ثم عاد فيركور إلى صديق طفولته القديم يافون باراف, وطلب منه أن يصمغ الكتاب, ويجلده يدوياً, حتى اكتمل العمل فيه في شباط عام 1942. لكن ليسكور أجبر على الاستخفاء, فتأخر توزيع الكتاب حتى أيلول.

 وصلت نسخ منه إلى لندن, فأعادوا طبعه هناك, وحملت النسخ على الطائرات الحربية البريطانية التي كانت تنقل السلاح إلى الثوار الفرنسيين, وصحا الباريسيون يوماً على منشورات ثخينة هذه المرة, هي قصة صمت البحر, أول كتاب في الأدب السري في أيام الاحتلال.

القصة في غاية البساطة, يرويها رجل يعيش مع ابنة أخيه في بلدة مجهولة. يدخل عليهما يوماً ضابط ألماني, يبادر بالحديث وهما صامتين. يقول إنه كان يحب فرنسه من بعيد, وقد نصح له جده قبل أن يموت قائلاً: لا تدخل فرنسة من غير البسطال والخوذة. يعتذر الضابط على فلتات اللسان, ويؤكد حبه لفرنسة. تتكرر الزيارات الليلية من غير داعٍ. ينظر مرة في عناوين الكتب في الغرفة , ويقول إنه موسيقي, يحب شكسبير, ودانتي, وثرفانتس, وموليير, وفولتير. يعيد عليهما شيئاً من قصة الجميلة والوحش, أو يلقي على أسماعهما شيئاً من ماكبث. يحدثهما عن باخ, ثم ينهي الزيارة, كما هو الحال في كلِّ مرة قائلاً: أتمنى لكما ليلةً سعيدة, ويمضي. يغيب الضابط أياماً, ثم يعود ليخبرهما إنه كان في باريس, ويطلب منهما أن ينسيا كل ما قاله من قبل, فقد طلب نقله إلى الجبهة الروسية, وسيرحل في الصباح الباكر. كان التهديد الأكبر هو روح فرنسة, لا قوتها. كالعادة, يتمنى لهما ليلة سعيدة. ينظر إلى الفتاة طويلاً, ثم يقول: وداعاً. مرت لحظات طويلة, مرعبة, قبل أن تكسر الفتاة الصمت لأول مرة, فتهمس: وداعاً.

تطرح أقصوصة صمت البحر تساؤلاتٍ مهمة, أهمها هل الصمت هو الردُّ الوحيد على الغزو؟ وهل يصح أن ينظر الفرنسيون بعطف إلى المحتل النازي, كما نظرت الفتاة الصامتة مرة واحدةً إلى الضابط في القصة؟ لكن قوات فرنسة الحرة في لندن لم تكن تعرف هوية المؤلف الحقيقي, فكتبت صحيفة الآداب الفرنسية تقول إنه كتاب إنساني مثير, لم نقرأ مثله منذ بداية الغزو. وكان هذا مشجعاً لفيركور بنشر المزيد من الكتب السرية الصغيرة, فنشر في الأشهر الستة عشر التالية من الاحتلال واحداً وعشرين كتاباً بأسماءٍ مستعارة, آخرها قصة أفول القمر لجون شتاينبيك, والتي ظهرت قبل أيام قليلة من التحرير. ولم يعرف الفرنسيون هوية أديبهم الحرّ جان برولر إلاّ بعد أن نالوا حريتهم, حتى توفي عام 1991, فاستحق الخلود.

تلك حكاية من حكايات النفوس الكبيرة التي عاشت في أزمان القهر والعبودية, وكانت قادرة على إدخال خيوط الشمس إلى الزنازين, كي تلثم شفاه الأبناء الخالدين. شكراً لكتاب ألان رايدنغ الذي صدر قبل أيامٍ فليلة, والذي ذكّرني بالحكاية. مرّت سُرف الدبابات على أرض فرنسة الحرة, لكن سنابل القمح طالت بعد ثقل النكبة, وبعد وطأة الصمت.  ثم شكراً لأجمل منْ عرِفت, الروائي جمال حسين عليّ.

 

Alan Riding, And the Show Went On. NY: Knopf, 2010

 

Husseinmajeed82@yahoo.ie

9/12/2010

  

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

 

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال