<%@ Language=JavaScript %> صباح علي الشاهر  أنّى لي بتلك العذبة المدهشة!

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

أنّى لي بتلك العذبة المدهشة!

 

 

صباح علي الشاهر

 

جئت أبحث عن سماوتي فلم أجدها..

لا النهر هو النهر.. ولا الأزقة هي الأزقة.. ولا حتى البساتين هي البساتين..

لا النهر نهري، ولا الأزقة أزقتي، ولا البساتين بساتيني، فأنّى لي بتلك العذبة المُدهشة التي كانت تدعى ( سماوة )..

يكذب من يدعي أن الأماكن تتشابه.. عندما تتشابه الأماكن لاتعود (أماكن)، بل تُصبح مكاناً واحداً..

السماوة ليست الفرات الذي يمر بمئات المدن والقرى غيرها، وقد يشطرها شطرين كما يفعل في السماوة.. والسماوة ليست جسراً أو جسوراً تربط ضفتيها، ولا سوق مسقوف تساقط منه حزم الضوء متعامدة تارة، ومتعاكسة تارة أخرى، والسماوة ليست حتى تلك البيوت القميئة التي تُبنى كما غيرها من اللبن أو الطابوق أو الإسمنت..

السماوة نكهة، ورائحة، وذاكرة .. تأبى إلا أن تكون طريّة، وفتيّة .. ضاحكة من الشيب الذي إشتعل فيما تبقى من شعيرات نبتت على قحف الجمجمة هكذا كيفما أتفق..

ثمة (مدن) تنشأ من دونما ذاكرة، فتظل حجراً، حتى لو زُرعت بناطحات السحاب.. وثمة ( مدن) لها نكهة، ورائحة، وذاكرة، لكنها تُضيّع ذاكرتها.. المدن التي تُضيع رائحتها وذاكرتها لا يشخص منها سوى الحجر، حتى لو إمتلأت بالبشر.. وآه من مدن الإسمنت والحجر!

بعد غياب دام عشرة أعوام جئت المدينة خلسة، متنكراً، حاملاً بين جوانحي رغبة بمد أوصر المحبة مع فتية عرفتهم وعرفوني .. تشممت من على البعد رائحتها..  تحاشاني من كان يعرفني معذوراً.. لكن المدينة كانت كعادتها ولّادة، فلم أغادرها خالي الوفاض.. كان ترابها ينطق، ونهرها يُغرّد..

وبعد عشرين عاماً من الفراق الأول جئتها خطفاً، فتلمست ذات الرائحة ..

أما اليوم، وبعد نصف قرن، أتشمم كما القطة تلك الرائحة التي لم يعد لها وجود.. هل لم يعد لسماوتي رائحة، أم أني فقدت حاسة الشم ؟

سماوتي ضاعت، وأنا أبحث عنها، فهل من يدلني عليها؟

شيء ما تهدّم .. فيها؟! .. أم فينا؟!

شيء ما تغيّر .. فيها؟! .. أم فينا؟!

من المؤكد أن سماوتنا التي كانت سوف لن تعود.. ثمة سماوة أخرى تنشأ، لا عبر ترميم وجهها القديم، وإنما على أنقاضها، وعلى الأنقاض لا يُعاد بناء المدن، وإنما يتم تشييد مدن أخرى، ربما لا علاقة لها بتلك التي ستصبح – وياللهول!- مُنقرضة ..

كنت فتيّا، مغضوباُ عليه، ومُطارداً من سلطات غبيّة، يوم تم تسويّة أثر، ربما يكون ذا شأن، بالأرض..

كنا ونحن صغاراً نلعب في سفح هذه التلة التي كنا نقول أنها( قصر السموأل)، وقد لا يكون كذلك، لكن كسر الخزف، والفخار الطيني التي كنا ندوس عليها تؤكد أن هذه التلة أثر من آثارنا التي لم نُحسن حمايتها..

شخص ما، بالتأكيد جاهل وأبله، أمر بتسوية قصر السموأل بالأرض من أجل مدّ شارع ينفتح على الصحراء، التي كانت تحيط المدينة من جهتها الشرقية المنفتحه على البرية اللامتناهيه..

نحن أُناس نمحي آثار أجدادنا الحقيقية لنقيم شواخص مبتدعة.. نقضي بأيدينا على أصالتنا.. نقطع جذورنا، ونربط أطراف ثيابنا بنفايات حضارات سائرة إلى ضمور..

ومن عجب أنني غادرت السماوة قبل أكثر من نصف قرن، وفيها أربع أو خمس مكتبات لبيع الكتب، وعدت لها بعد أكثر من نصف قرن، فلم أجد فيها سوى ما يشتبه بإنه مكتبة واحدة ..

غادرتها وفيها دارين للسينما، واحدة صيفيّة والأخرى شتويّة، وكانوا يبنون ثالثة، وعدت فما وجدت فيها ولا سينما واحدة ..

لم يتحقق من أحلامنا سوى حلم غازي الخطيب بإنشاء جامعة في السماوة.. لقد كان حلماً مُستحيلاً، لكن المستحيل تحقق، أما الممكن فلم يتحقق منه شيء، وتلكم مفارقة غاية في الغرابة .. 

في الخمسينات أُنشئت إسالة الماء .. كان الماء يصل الجميع..

كانت الكهرباء تكفي، والمحطة التابعة للبلدية تُغذي المدينة، أما اليوم فالكهرباء تلعب مع الناس لعبة القط والفأر ..

كانت شوارعنا المُعبدة بالقار على طريقة المرحوم العم حنش تُرش عصراً، وكانت البلدية تسقي الجزرات الوسطيّة في شارع مصيوي، والقشلة، وتعتني بشجيرات الدفلة والجوري، والصفصاف الباكي، وكانت البساتين تحنو على المدينة، والفرات مُترع، مهيب ، والجلوس على ضفافه متعة ما بعدها مُتعة ..

والأهم كانت المدينة تأكل مما تزرع، وتلبس وتنتعل مما يُنتج محلياً، في السماوة أو بغداد ، أو البصرة أو النجف، أما الأجهزة الدقيقة فتأتينا من ( أخوالنا) الإنكليز .. كان حدادنا يعمل، ونجارنا يعمل، وبزازنا يبيع القماش ليخيطه الخيّاط أو الخيّاطة..

دبسنا يأتينا من المدابس التي إنقرضت..

جلودنا تدبغ في مدابغنا التي أندثرت..

نسيجنا يُنسج في (جومة) الحائك التي أصبحت فلكلوراً، وأمهاتنا يغزلنَّ ويطرزنَّ، ويصنعن الإيزار والمداد والبسط.. وسراجنا يعمل الأحذية والنعل على مقاسات أقدامنا..

قمحنا يُطحن في مطاحننا، ورزنا يُهبش في مهابشنا..

ماذا يعني هذا ؟

يعني أن ثروتنا التي كانت شحيحة كانت تدور وتتراكم داخل حدودنا لتصنع نهضتنا المُرتجاة، وتلكم هي شروط النهضة والإستقلال الحقيقي، الذي هو في جوهره إستقلال إقتصادي ..

أين  أصبحنا اليوم؟

زادت ثروتنا المتأتية من إقتصادنا الريعي بشكل خُرافي، وزاد نهبنا، وإستغلالنا بشكل خرافي أيضاً، فكيف والحال هكذا أن لا تضيع سماوتي العذبة المُدهشة ..

 

                                          

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا