<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن خلف الطواحين: بشتا شآن مذبحة حلم نظيف " الحلم والسلطة أمران متناقضان" كامو

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

خلف الطواحين: بشتاشآن مذبحة حلم نظيف

 

 

حمزة الحسن

 

 

 " الحلم والسلطة أمران متناقضان" كامو
 


يوم نُشرت رواية (خلف الطواحين) للكاتب عامر حسين عام 1991 مرّ النشر كمرور عرس اليتيم وفي هذا العرس يغيب القمر ويغيب القارئ والناقد بل حتى دار النشر التي أصدرت الرواية لم تضع كتقليد متبع اسمها وعنوانها في نوع من التنكر أو الانكار لهذه الرواية وباستثناء عبارة(جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ـ الطبعة الأولى، 1991) ليس هناك ما يشير الى جهة النشر، لذلك تبدو عبارة (حقوق المؤلف محفوظة) مزحة ثقيلة أو كلسان طويل ساخر في مأتم يتيم أيضا لأن العرس والمأتم يتشابهان في أعراس وتأليف ومآتم اليتامى: لا أحد يقترب من العرس ولا من موكب الجنازة أو التأليف الا من عابر سبيل أو عابر أمل أو عابر مغامرة.

لكن يتم عامر حسين هو نوع من اليتم الذي يتجاوز اليتم الأبوي أو البيولوجي الى اليتم الايديولوجي، أو يتم الأعزل، ويعني في اللغة الانفراد أو بلغة اليوم التغريد خارج السرب، بلا حفل ولا تشييع ولا دار نشر ولا حتى اعلان صدور أو قراءة عابرة ولا يذكر هذا الكاتب في سجلات كتاب الرواية في العراق كما لو انه من نوع الأشباح، وليس هناك، في هذا الازدحام والتناكب والضجة والسوق، أي تعريف به سوى عبارات مقتضبة مترددة سريعة كطلقة مسدس في الظلام أو تحية ملثمة مهرولة، وتقول هذه العبارات انه من مواليد 1957 وأصدر في العراق عام 1979 رواية( القرف) التي قادته الى السجن والاستجواب عدة مرات( الى أين تقوده اذن؟) وفي عام 1991 صدرت له رواية( خلف الطواحين) وفي عام 2008 صدرت له رواية( المأزق) التي عثرتُ بعد عناء على اعلان صغير متردد عنها ولا شيء غير ذلك: لا يبدو ان عامر حسين مشغول بهذه( الضجة الصامتة) لأنه هو الآخر بعد تجربة طويلة في الحياة وفي السياسة والعزلة وفي الكتابة وفي الموت عرف أحد أهم تقاليدنا الأدبية في فن التغليس وهو فن يمارسه الكتاب والنقاد أكثر مما يمارسه القراء وعامة الناس وهو من مباهج الحياة الثقافية العتيدة والعريقة في الصمت والتواري.

بشت شآن اسم قرية يعني في اللغة العربية(خلف الطواحين) وعند ذكر هذا الاسم سيكون واضحا لماذا أجفل القوم (الاخوة الأعداء) من الرواية ومن عامر حسين سواء من النقاد أو من دار النشر أو من المنابر الاعلامية المعنية بالاسم لأن هذا الاسم يحمل عنوان مذبحة منسية أو يراد لها أن تكون كذلك من أطراف عدة وعليه فالرواية التي تتعرض لها يجب أن تكون منسية ونغلق الذاكرة والتاريخ على الحيوي والحقيقي والمنسي من أجل أهداف لا أحد يعرفها أكثر مما يعرفها هذا الشبح المسمى عامر حسين حتى لو كان مقيما اليوم في الدنمارك أو في اية بقعة في العالم لأن المكان لا يعلن عن وجود الكاتب بل العكس، اذا كان هو يقيم اليوم في مكان آخر غير خلف الطواحين، الحلم والمكان والثورة والمجزرة والخيانة والغدر والأمل والحرية والصراخ: المفارقة ان الحديث والافلام والكتب والصور والتحقيق عن قتل الرهبان الفرنسيين المخطوفين في الجزائر قبل سنوات لم ينقطع حتى اليوم مع ان الثوّار أكثر شجاعة من الرهبان وواقعية في العمل من اجل العدالة والاستعداد للتضحية.

في نهاية الرواية وبعد المجزرة يجلس الناجون الانصار من المذبحة في مكان خارج الحدود وعند منتصف الليل يقترح عليهم أحدهم حفلة صراخ بعد أن ملّوا من الحديث والثرثرة والذكرى والشجن والمسؤولية والدم وتبدأ حفلة صراخ عارية عارمة تشبه مناحة كربلائية لثوار حلم (يقودها المؤلف عامر لكن بلا حُسين) ليس في صحراء بل في جبل، بعد أن تركوا خلفهم أكثر من سبعين شهيدا ـ كما هو عدد شهداء صحراء الرمل والغدر والفجيعة ـ لكنه ليس صراخا عاديا: انه نوع من البكاء البطولي لرجال بواسل تركوا مدنهم وقراهم ومدارسهم وزوجاتهم وحقولهم وعوائلهم وعاداتهم وصعدوا الى الجبل من اجل حلم الثورة والتغيير من دون سؤال ولا مناقشة ولا توجس ودخلوا التجربة كما يدخل درويش في حلقة نار أو صوفي في صومعته وهو يتقد بالوهج والنور والجمر والشعلة: (صرخوا كالذئاب. صرخوا كالعفاريت. صرخوا كالشياطين. صرخوا كالوحوش، كالمجانين، كالمعتوهين، كالمتسولين...ص 310). وما زالوا يصرخون ولا أحد يسمع في صحراء الصمت ولا أحد يجيب.

لا غرابة في ذلك لأن غالبية هؤلاء من عوائل فقيرة أو معدمة وفي أحسن الأحوال متوسطة الحال وهم من جذور دينية محوّلة الى الايديولوجيا، وهذا التحويل للعاطفة الدينية العذراء بكل معنى الكلمة جعلهم مادة خام قابلة للعجن والتكوين والصياغة على أي شكل، لكنهم، وهنا مصيبة رجال خلف الطواحين، لم يكونوا مدركين، في عزلة الجبل وشراسة الحلم ونبل الأمل، انهم كانوا مخلوقات آلية مبرمجة الا بعد صدمة الواقع الأخيرة حين وقعت المجزرة وفسحت المجال للسخرية: ( ما رأيكم ببغال آليين؟ ـ تخيلوا رجلاً آلياً يمسك أنفه... ـ ورجلاً آلياً يغمز لاحدى بنات القرية ـ تصورا بغلاً آلياً يرفس ويمتنع عن حمل التموين ـ ورجلاً آلياً يعيش اربع سنوات مع الفلاحين ولم يتعلم من لغتهم غير" نان هيَّا" عندكم خبز؟ ـ تخيلوا رجلاً آلياً يفر من المعركة ـ ما رأيكم برجل آلي يحمل كيس تبغه؟ ـ تخيلوا الآن رجلاً آلياً يناقش أخطاء بشت شآن...ص312).

قبل الدخول في الرواية وهي سرد تفصيلي لتجربة الانصار الشيوعيين في الجبال، لا يمكن تجاوز عتبات الرواية أو مناصاتها، وعلم المناص في النص أفرد له الناقد المعروف جيرار جانيت كتابا خاصا اسمه (العتبات) وهي حواشي النص والعناوين والاهداءات والمقدمات والتعريفات وغلاف النص والصور وكل ما يشكل الاطار العام للعمل الادبي أو الفني وهو علم لا نتعامل معه بجدية إما عن جهل نقدي ومعرفي أو استخفاف بمبادئ الحداثة النقدية والاجترار لمقولات نقدية مستهلكة سريعة التناول وغير مكلفة لا في المشقة ولا في البحث ولا في السؤال.

المناص الأول: غياب اسم دار النشر وهو يحمل دلالة سياسية واضحة غير مخفية. المناص الثاني: صورة لوحة الغلاف (لم أجد غلاف الرواية على أي موقع) وهي صورة مأخوذة من مرتفع لرجال مسلحين بمعاطف ثقيلة يمشون في طابور طويل وظلالهم تنعكس على الجانب الايسر في درب يشق الان، تواً، خلال المشي في الثلوج، والبنادق على الأكتاف، وفي النهاية، نهاية الصورة، جبل مثلج، والجو رمادي غائم في الصورة لكن من الواضح ان الشمس كانت مشرقة الى حد ما وإلا كيف انعكست ظلال القامات على الثلج؟

تبدو الصورة ملتقطة من فوق، بعدسة رفيق، ومن المحتمل، حسب مناخ الصورة، ان المصور كان يرى، تلك اللحظة صورة مشرقة لزمن وشيك يشق هو الآخر، الآن، في الثلج، والصخر، والأمل، والارادة، لذلك يمكن فهم صراخ الرجال القادمين من تلك المذبحة بعد نهاية الحلم أو بتعبير أدق صدمة الحلم حين استيقظوا على حقيقة ان صورة المستقبل لا تجسدها عدسات التصوير في الثلوج ولا في الزهو الانساني في مواجهة الخطر من اجل الثورة، ولا في تحمل الصعاب، بل هو صراع ارادات وقوى صغرى وكبرى ومصالح تتجاوز ظلالهم على الثلج وتتخطى عالمهم النقي في عزلة الجبل حين كان النظام الدولي في لحظة منعطف بالكامل وهناك امبراطورية اشتراكية على وشك الانهيار وقرار تصفيتهم كان قرارا دوليا وأقليميا ومحليا والشركاء كثر وليست الرصاصات التي اطلقت في يوم المجزرة ( الأول من آيار 1983) من قبل المنفذين إلا علامة على بداية النهاية وتتويجا لقرار كبير.

المناص الثالث: أو العتبة الثالثة قبل الدخول في النص، هو الاهداء بخط يد الكاتب الى رفيق دربه الكاتب نزار رهك وفي هذا الاهداء يقول الكاتب: ( العزيز نزار: ليس للذي مضى فقط بل للآتي أيضا ـ لاهاي، 27 تموز 1993). اذا عرفنا ان هذا الاهداء المعبر بعد المجزرة بعشر سنوات، ومن مكان مختلف، نعرف أكثر ان الكاتب لا يكتب من أجل الماضي ولا من أجل الذكرى بل من أجل الآتي أيضا. ولكن ماذا يعني الآتي لعامر حسين؟ لكي لا تتكرر التجربة، من أجل ألا نخون الشهداء، من أجل الذكرى، لكي لا ننسى، لكي لا نغفر، من أجل الدرس، من أجل الأمل؟ كل ذلك وغيره محتمل ولكن الأكثر خطرا هو الذي يسميه الناجون من الانصار في أحاديثهم وفي حواراتهم وفي كتابتاتهم هزيمة. هزيمة من؟ سنعرف أو نحاول أن نعرف.

المناص الرابع: هو تقديم الرواية بهذه العبارة للكاتب نفسه: ( ان الشيوعية خبز وحرية وإلا... فلتذهب الى الجحيم) لكن، اولا،من ذهب في النهاية الى الجحيم في تلك الكربلاء الشيوعية؟ وثانيا، هذا التقديم يفترض عن حسن نية، ودرب جهنم معبد بالازهار والنوايا الحسنة، ان الشيوعية تعمل حسب قوانين المبادئ ولكننا لا نجد هذا الفهم الميكانيكي عن الحتمية التاريخية، والسرد الداخلي يقدم لنا شرحا أوسع وأدق حين يرتبط شرط الحرية والخبز بشرط وعي اللحظة التاريخية وشروط القيادة وفهم آليات الصراع وقواه العلنية والسرية وهي شروط غير متوفرة في تلك اللحظة، بل أن تلك القيادة لم تكن مؤهلة لعمل من هذا النوع بعد اعداد قواعدها لسنوات على عمل سياسي سلمي وهو أمر يؤكده الانصار سواء في مقالاتهم أو في أحاديثهم اليومية أو في رسائل بعضهم لنا وحتى في كوابيسهم المستمرة لأن بشت شآن ليست مذبحة فقط أو معركة حربية قادها جلال الطالباني أو مساعده نو شيرون مصطفى فحسب بل هي قرار تصفية للحزب الشيوعي العراقي ولقواعده تحديداً في الجبل بعد تصفيتهم في المدن.

يبدأ السرد الروائي من لحظة العودة من عمل عسكري ضد احدى الربايا العسكرية ومقتل الرفيق آدم ومحاولات حمله على البغل ثم القرار بتركه لصعوبة ذلك في اجواء صعبة، ثم الدخول في عالم الانصار في الجبل واحاديثهم وأحلامهم وأوقات مرحهم وهواجسهم الانسانية والجسدية واشواقهم وكل أنواع الحرمان من المسرات العادية وهي كثيرة خاصة اذا عرفنا ان غالبيتهم من الشباب والشابات لكن التصوف والزهد بالمعنى البعيد للمفردات رفع من تلك الرغبات الى درجة التسامي، الى حد كبير، لذلك كان الانهيار بعد المذبحة وما تلاها يعني ترك هؤلاء في العراء بلا ثورة ولا حلم ولا أمل ولا جسد أو اجساد محطمة، بل أن بعضهم يعيش حتى اليوم تلك الذكرى ولم يخرج منها أو لن يخرج أبداً لأن الزمن توقف عند ذلك الفجر من يوم الاحتفال الدموي.

يمضي الايقاع السردي البطيء كأيام الجبل في هذه الرواية ويتصاعد يوم المذبحة لكن الكاتب يؤكد في هذا الفصل ان بشت شآن لم تكن مباغتة: ( كل الأحداث كانت توحي أن الاعداء يعدون لمجزرة كبيرة ـ ص 254) لكن أحداً لم يتحرك. ومن يتحرك؟ ان لقاءات على مستويات عليا بين السلطة وبين حزب الطالباني قد تمت والصور الجوية والمعلومات والاسلحة تتدفق على الحزب والقصف المدفعي التمويهي مستمر والمشاغلات الوهمية مستمرة واساليب الحشد العسكري للسلطة هنا وهناك من أجل تشتيت الجهد لم تتوقف ولكن لماذا لم يتحرك أحد لمنع الجريمة؟ أو في الأقل التحسب والاستعداد أو حتى الانسحاب الى ما وراء جبل قنديل؟ ـ من سخريات الدهر وألاعيب هذه الحياة ان كاتب هذه السطور في سنوات من حياته كان موجودا على جبل قنديل نفسه ولكن في الجانب الآخر، الجانب الذي كان عامر حسين وانصاره يشنون غاراتهم عليه بوهم اسقاط دكتاتورية عاتية وفي ذروة توحشها الحربي والنفسي والاخلاقي والنفطي والاقتصادي، وبقتل جنود عزل مثلهم وفقراء ومنفيين، وربما أدركوا بعد فوات الاوان ان الذين على الجانب الآخر من الجبل أو الذين خلف الطاحونة هم ضحايا لعقلية واحدة ولمؤسسة سياسية وايديولوجية واحدة وبناء هندسي ذهني واحد متخلف ومتوحش وغرائزي.

من غير الدخول في تفاصيل ذلك اليوم وهي معروفة حين انهمر الرصاص على الانصار من قمم الجبال في يوم الاحتفال بعيد العمال العالمي، وقتل الاسرى بصورة وحشية، وانسحاب من تمكن من ذلك خلف جبال قنديل، خارج الحدود، تقول الرواية بوضوح بسيط وعفوي أشياء كثيرة مهمة تتجاوز السرد نفسه كما لو أن الكاتب، في قلب المذبحة الحية في ذاكرته، أراد أن يطلق النار على أهداف أخرى غير العدو الذي عرف: لقد سقط مفهوم العدو الحقيقي في تلك المجزرة، اولا، وثانيا، والأخطر هو سقوط الحلم، وهو ما دفع رحمن أحد شخوص المجزرة والناجي منها(هل هناك نجاة نفسية حقيقية ونهائية من مجزرة؟) الى التنكيل بالأسرى والمشبوهين في سجون الحزب حد التفكير بتصفيتهم جسديا في السجن قبل الانسحاب الأخير، لكن رحمن اكتشف في هذه اللحظات ان حياته لم تعد ذات قيمة انسانية، وفي الصفحة الأخيرة التي تحمل عنوان (خاتمة) نقرأ هذه العبارة: (انتحر رحمن وقد كتب يقول: لقد مات الانسان فيّ، فعلى الوحش أن يموت) ومن حسن الحظ ان هذه العبارة هي الخاتمة ولو كانت في مكان آخر لتعذر متابعة القراءة لأسباب عاطفية. لقد تماهى مع الوحش وذُبح الحلم فما جدوى أن يبقى؟ قتل الأسرى وقتل النفس سواء لأنهم من زاويته مخلوقات لا تستحق العيش مثله هو.

هذه هي ذهنية التفكير في الحلول المطلقة. النصر أو الموت. لا خيارات كثيرة ومساحات رمادية هائلة لا تُكتَشف في عمى الثنائيات القاطعة والمواقف العصابية المتشنجة لأن الرؤية في الظلام خلق كالجمال والقانون والأمل والحل: رحمن كان أكثر جرأة من غيره وشجاعة لكي يصرح بما وصل اليه في حين تفضّل الضحية عادة ان تعيش بجلد الوحش وتتقمصه وتمارس دوره بمهارة نادرة وتبحث عن ضحية هالكة للتنفيس، وقد تمارس هذا الدور من دون وعي وادارك لطبيعة التشوه الذي وصلت اليه ببطء. عند متابعة بعض ضحايا تلك المجزرة وغيرها، في الحياة وفي الكتابة، وجدت ان بعضهم نسخة مطورة ومحسنة من جلاديهم عند اقل بادرة اختلاف في الرأي، لذلك فإن فكرة النجاة من مجزرة أو من تجربة قسوة كالحرب والسجن والتعذيب لا تكون نهائية غالبا ما لم يتم حوار عقلاني وعاطفي أيضا( الجرح العاطفي لا يعالج بالمنطق وحده) مع الذات المنشطرة بأقصى وضوح ووعي وعلم وجرأة. لكن بأية معرفة بديلة ونظام ثقافي مغاير وحيوي تواجه ذات مفرغة من آدميتها نفسها الموزعة؟ الذات الجريحة متجذرة وبتقاليد وعادات وذكريات راسخة والذات الجديدة فتية بتقاليد نامية وضعيفة. عادة يكون الانزواء أو التخلي أو العدمية العامة أو الكآبة والغوص المستمر في الماضي الذي يكتسح كل الأزمنة وتحلّ صور الألبوم القديم محل الحاضر والمستقبل.

كيف تحول المناضل الزاهد بقضية، المضحي، تارك الدار والأهل والعمل، الثوري المستعد للموت من أجل السعادة والمسرة والعدالة والحرية والمستقبل، الى سفاح؟ قد يكون السؤال الحقيقي هو: من قتل الانسان داخل رحمن، وفي أعماق غيره أيضا، وأخرج الوحش؟ من قتل الطفل والحلم والأمل وغذى الذئب؟ هذا ما تريد أن تقوله هذه الرواية البسيطة كالماء والعميقة كحرش جبلي، والعفوية كنواح طفل مهجور في محطة قطار، لكن ما هو أبعد من الرواية ومن المذبحة هو ان قراءة تلك التجربة كما نقرأ من كتاب عاشوا التجربة أو نرى في مشاهد حلقات فيلم على قناة البغدادية، تمضي الى ثنائيات عراقية فكرية شائعة في الذهن السياسي ومنها واكثرها خطأ وقسوة وخطورة هي عقلية: الرابح والخاسر.

قراءة تلك التجربة وغيرها من تجارب الحياة من هذا المنظار: الربح والخسارة، الهجوم والهجوم المضاد، الفشل والكسب، المنتصر والمهزوم، هو الخطر الفادح على تلك التجربة الغنية بالمعاني والرموز والدلالات، لأن الانتصار الحقيقي في تلك التجربة هو من لحظة الشروع في حلم التغيير، اولا، وفي الأمل المسلح على تغييره، ثانيا، وثالثا، في البراءة الانسانية الصافية لشباب وشابات قرروا المضي الى الحلم كفراشات الى النار دون حساب العواقب والصعاب والمهالك والمخاطر، ورابعا، إن شرف هذا النوع من المعارك ليس في النتائج بل في الغايات: "ليس للذي مضى، بل من اجل الآتي".

لكن من يدري فقد يكون انتصار حلم الانصار في الوصول الى السلطة أكثر كارثية من هزيمة حربية غير متكافئة لأننا لا نعرف ماذا سيحدث بعد ذلك( السلطة والحلم أمران متناقضان) : من حسن حظ "الناجين" من المجزرة انهم هزموا، حسب قاموسهم، في معركة غدر، وفي انهيار حلم نظيف، قبل أن يروا حلمهم وقد تحقق على صورة أكثر قسوة، لأن السلطة تفسد الأحلام النقية وتحول الانسان الى وحش أنيق يمشي مثل كل البشر: لا تجسد الثورة حلم الحرية، دائماً، بل تحطمه، أحيانا، في الواقع.


23/9/2010

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا