<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن الواقع الذكي

 

 

 الواقع الذكي

 

 

حمزة الحسن

 

في بعض منعطفات التاريخ يقترح الواقع حلولاً جاهزة في حين يعجز الفكر وتعجز السياسة عن ذلك،
بل العكس خربت السياسة وخرب الفكر الواقع، وحوله الى جحيم أرضي.

ما حاجتنا اليوم الى النظرية السياسية ، ايديولوجيا، أكثر من الحاجة الى برنامج اصلاح شامل،
اذا كان الواقع نفسه يقترح كل لحظة حلولاً عملية وواقعية وعقلانية،
في حين يغيب الوعي ويغيب الفكر وتغيب السياسة عن اقتراح الحل الشامل؟

في دول متطورة وديمقراطية هناك خطط وبرامج تنمية لسنوات محددة،
تتعلق بالصحة والتعليم والدفاع والسكن والمواصلات والضمانات الاجتماعية،
من دون نظريات كبرى تفسر التاريخ،
أو تقترح مستقبلاً متخيلاً،
وتفرض على الناس اكراهات الفكر أو سلطة المؤسسات.

ليست الدولة العراقية ــــ والعربية ـــ نتاج اليوم، وتراكم الخبرات والتجارب كفيل بانتاج الواقع الذكي،
الواقع المفكرّ مقابل مفارقة غريبة تتلخص في غياب فكر يعيد صياغة هذا الواقع المُخرّب،
كما لو ان الواقع نفسه يتجاوزنا ويقترح مخارج طوارئ وابواب انقاذ وحبال تسلق من هذا الحريق العام،
في حين كل ما نقوم به هو اغلاق كل أبواب الانقاذ، واشعال الحريق والبحث في النصوص عن الانقاذ ،
مع ان الواقع نفسه صار ينتج نصوصه ومفاهيمه ويقترح علينا حلولاً عملية بل بسيطة،
لأن الحياة نفسها بسيطة وقادرة على ترميم نفسها، اذا توفرت العقلانية والنزاهة والمسؤولية.

ما هو الغامض لكي نحتاج الى نظريات سياسية وسرديات كبرى تفسر الماضي والحاضر والمستقبل،
لكي نحارب الارهاب مع ان اية خنفساء أو ثعلب أو زهرة برية تعرف كيف تدافع عن نفسها،
أو كيف نكافح الفساد، نقاوم الطائفية، نغلق الحدود على الدخيل والغازي والطارئ،
نعيد بناء البنية التحتية، الكهرباء، المدارس، صياغة القوانين، بناء مؤسسة عسكرية وطنية،
حماية المال العام من النهب المفتوح وغير ذلك؟

الواقع نفسه بلا نظرية يقدم حلولاً تحتاج الى تنفيذ اذا توفرت الارادة العامة والوعي العام:

ما هو الملتبس والعصي على الحل في مدن آمنة، وشوارع نظيفة، ومؤسسات دولة معافاة؟

ما هي الخوارق والعوائق والجدران التي تقف دون ذلك؟
الواقع نفسه، قبل الفكر السياسي، يقترح الحلول العملية والواقعية نتيجة تراكم تجارب ومعارف وخبرات طويلة،
لأن الدولة ليست السلطة: الدولة مؤسسة خدمات يُفترض أن تبقى محايدة،
والسلطة مؤسسة سياسية قابلة للتغيير، والدولة العراقية، مثلاً، أقدم من سلطة اليوم وسلطة الغد،
ومؤسساتها القديمة رغم كل السلبيات قادرة على العمل والتجديد والحياة والفاعلية.

نحن نبحث عن حلول في المكان الخطأ، خارج الواقع الذكي:
في الحقيقة لا نبحث عن حلول بل ترضيات وتسويات وصفقات، وهذه الغام مزروعة تنفجر في أي وقت.
نبحث عن ترقيع وعن مساج لمصاب بمرض فتاك، على الضد من الواقع نفسه الذي يقدم كل لحظة، كل يوم، العلاج والطريقة من دون حذلقة ولا مراوغات ولا تقعر:

هل يحتاج الفقر أكثر من توزيع عادل للثروة؟
هل يحتاج ترسيخ هيبة السلطة أكثر من ان تحترم السلطة نفسها ودورها ومسؤوليتها؟
وأن يحترم الناس أصواتهم وخياراتهم؟

أي عمارة منسوفة، حقول مقتلعة محروقة، غابات مقطوعة، نفايات مرمية، حقول نفط مسروقة،
شوارع مظلمة،
مدارس محطمة،
عصابات هائمة متجولة،
أموال عامة منهوبة وغير ذلك،
كل هذه تقدم الحلول البديلة بنفسها، من الصورة فحسب، كما لو ان الواقع نفسه صار،
من العجز والشلل والعطب، يفكر بالوكالة عنا.

في مراحل تاريخية محددة يسبق الفكر الواقع،
ويعيد صياغته عندما يكون الواقع نفسه غامضاً،
لكن أمام هذا الخراب المفضوح والعلني،
أمام موت الطبيعة وموت الانسان وولادة الوحش البشري،
ما هي الحاجة للبحث عن مفاهيم ونظريات وحوارات بالقرب من السكاكين والسيارات المفخخة وسقوط المدن؟

مفارقة مخزية ان الذين يعيدون صياغة الواقع العراقي، مثلا، من ارهابيين ولصوص وانتهازيين وسماسرة ومتنكرين،
هم في الحقيقة جهلة وأنصاف أميين،
ولا علم لهم بادارة الدولة والمال والسلطة والفكر والاقتصاد والسياسة،
لكنهم قاموا باعادة بناء الواقع كما يريدون،
دون الحاجة الى نظريات سياسية أو اقتصادية أو علمية:

في الوقت الذي ننشغل نحن في تفسير الواقع والاحداث ونختلف على الاسباب والنتائج،
لكن هؤلاء يقومون كل يوم برسم هذا الواقع بقوة السلاح أو قوة المال أو قوة الرعب دون الحاجة الى بحث نظري وفكري وفلسفي لا اول له ولا آخر،
في حين ننشغل نحن بجرائم القتل او جرائم الفساد.

هل يحتاج الواقع اليوم الى تفسير؟
انه من الوضوح بحيث يعمي البصر،
ومن المعروف ان الحقائق المشعة المتكررة الساطعة تصبح، مع الوقت، غير مرئية،
وهو ما يسميه علماء الاجتماع بــــ ( العمى الاجتماعي) الناتج عن وضوح الحقيقة وشدتها وتكرارها.
من يفكر بظهور الشمس الا من يعيش في بلدان ثلجية؟
ومن يهتم بعادة غسل العار للنساء المتكررة ــــ مع ان العار الاكبر هو سرقة حرية الناس ــــ في مجتمع قبلي قائم على فكرة الشرف الجنسي؟

في لحظة حاسمة من تاريخ المجتمع يصل الواقع نفسه الى مستوى الواقع المفكِر،
عندما تهدد الحياة بخطر جدي مباشر،
ويقترح حلولاً من تراكم تجارب البشرية،
كما تقوم الطبيعة بترميم نفسها بعد الحرائق والكوارث،
لكن الواقع الذكي يحتاج الى ارادة ومسؤولية وقرار،
أكثر من حاجته الى نظريات:
أية نحلة أو سحلية أو شجرة تقدم لنا كل لحظة أشكالاً مدهشة للحياة والأمل،
أكثر من أي شيء آخر:

نظرة واحدة لكل الاشياء المحطمة، تكفي لمعرفة الحل.

الواقع نفسه يقترح تغييره، لكننا نبحث عن حلول عن واقع مختلف،
لأننا منفيون وغرباء غربيتن:
غربة الوعي،
وغربة المكان.

 

حمزة الحسن

 

 

15.12.2014

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               الصفحة الرئيسية - 1 -