Untitled Document
 

 

دلال المغربي

أحمد الناصري

كأني أعرفها وأنتظرها منذ دهور سحيقة، في كل منعطفات العمر، وفي كل التجارب والمواقع والبيوت والدروب التي مررت بها، وسعيت وراءها، وأنا أحلم بالتحرر والتقدم والعمل الشاق والمتواصل من أجل العراق وفلسطين وكل المدن العربية، من اجل الناس دفاعاً عن التخوم والثغور والمخيمات والحجر والشجر المستباح، وهي في الحلم الرجولي البهي الصبية القادمة، متوجة بالغار، وهي في كل نساء بلادي الطيبات والجميلات، ومع الشهيدات البطلات والشهداء الأبطال، صبية كالحنطة السمراء، كرائحة البن الفلسطيني المشعة، كالفل والياسمين والحبق وشتلة الزعتر واليود ورائحة المخيم والزيتون، هي كالفراشة والنحلة وصوت فيروز الشفيف، وكالأرجوحة والبندول الذي لا يتوقف عن الحركة والدوران حتى يلاقي مصيره الاختياري بوعي نادر وبقبضة لا تترك السلاح حتى وهي ميتة، وقد كشفت سرها للبحر ولفلسطين وللناس في المخيمات، بعد إن اقتحمت (الغيتو) المؤقت الذي أقيم فوق أرض بلادي من دون وجه حق، الغيتو المحصن بالسلاح وبالخرافة، وأفزعت وطاردت أله القتل والجريمة والشذوذ وقصت جديلة من شعره القذر، كذكرى ليوم آخر قادم.
دلال المغربي تتطوع للرد على بارك وعصابته التي نفذت عملية فردان في بيروت، والذي يشرف على العملية القائد الميداني الخطير، الشهيد لا حقاً، خليل الوزير ( أبو جهاد )، تتدرب دلال ليل نهار لتقتحم لجج البحر وتعود الى الأرض وتختطف حافلات الجنود وتستخدمها في تبادل الأسرى، والعملية تنجح وتصل دلال الى الأرض الحلم، الأرض التي ولدت بعيداً عنها منذ ما يصل لعشرين ربيعاً لم تكتمل بعد، تعمدت في مياه بيروت، وتوضأت في مياه حيفا، ثم خطت على التراب الفلسطيني لأول مرة، صبية علمها القدر كيف تحاكي الأرض والسلاح وكيف تعود وكيف تكون وكيف تنسج الحكاية وتقولها للأرض والبحر والناس؟؟.
نجحت دلال ونجحت العملية وفشل باراك وكل الكيان من خلفه في إيقافها عند حدها، فقد عادت الى فلسطين وتشممت رائحة البحر واليود والأرض الفلسطينية العبقة، ثم أختلط دمها مع تراب وطنها المقدس، وكان آخر هواء ملأ رئتيها هواء فلسطين، لم يحصل منها باراك على حرف، لقد صمتت الصمت الأبدي الجليل، ربما فرحت، وربما أسفت على أشياء صغيرة غادرتها، وربما حزنت على أمها التي ودعتها الوداع الأخير وقبلتها وأهدتها صورة جميلة لصبية تدخل العشرين نحو الغياب، ثم خرجت من البيت وظلت تتلفت نحو أمها حتى انتهاء الشارع في المنعطف الأخير، وانتهاء العمر في الالتفات
ه الأخيرة، لكن الأم لم تزل ناطرة، تعد العشاء الفلسطيني الأخير لأبنتها الذكية والمدللة، دلال المغربي، بينما أقامت دلال لها بيتاً أو قبراً في فلسطين، بعد إن أعلنت جمهورية دلال.
باراك الذي تخفى بزي امرأة شقراء لينفذ مجزرة فردان في بيروت، أرسل له خليل الوزير فدائية حقيقية
، من لحم ودم ومشاعر وطنية ولإنسانية، وليست مزيفة ولا متخفية بزي آخر. لقد لبست ثياب الثورة، وهي دلالة كما هو أسمها دلال، في رمزية ثورية كبيرة. والمقاومة الفلسطينية لم تسيطر على جثة المرأة المزيفة فقد تسللت الى البحر المفتوح، لكن باراك سيطر باستزلام بائس على جثة دلال الساخرة منه ومن مشروعه ومن عسكره وقتلاه، والصحافة صورت المشهد. ماذا يهم الجسد المقتول بعد القتل؟؟ ماذا استفاد الجندي الذي شد شعر عبد الكريم قاسم يوم 9 شباط المشؤوم وبصق في وجهه الكريم أمام عدسات التلفزيون؟؟ ولو عاد قاسم الى الحياة بعد ذلك المشهد ربما عفا عن ذلك الجندي البائس. من يدري.
اليوم تعود دلال المغربي في مسيرة طويلة من بين القبور والتخوم والمدن العربية التي عشقتها وحلمت في زيارتها في رحلة ترفيهية جميلة، ربما تبسمت لآن الخطة كانت محكمة وناجحة الى أبعد الحدود، وربما راجعت مواقفها ولاحظت بعض النواقص والأخطاء الصغيرة في الخطة، ربما تشممت رائحة البحر والملح وتراب الجليل والمدن والقرى الفلسطينية، وسمعت غناءً فلسطينياً، ثم دخلت الى الجنوب اللبناني بجواز سفر الشهداء، وراقبت المواقع الفدائية القديمة في الناقورة وقلعة الشقيف وأحراش الجنوب، وشاهدت بقايا آثار عدوان تموز، وربما أرسلت رسائل الى جميع القواعد والمعسكرات في بيروت وغور الأردن، وربما قررت زيارة المخيم والاعتذار والاعتراف لأمها بسر لم يعد سراً وصار ملك الجميع،
صار ملكاً لفلسطين، وربما زارت صديقاتها اللواتي فارقتهن قبل ثلاثين عاماً، وسألت عن الأولاد والأحفاد والأزواج، وهي لم تزل صبية في العشرين، حيث توقف العمر وأتحد وذاب في تاريخ فلسطين، قبل أن تتوجه الى مستقرها المؤقت في مدينة الشهداء.
إن دلال المغربي تعود منتصرة مرة أخرى وهي تواصل الابتسام والمقاومة والقتال وتعمم معنى خاص للبطولة والعمل والنجاح وتعطي درساً في الاستراتيجية تعلمته في أول درس في مدرسة المخيم والقواعد، وكان المعلم خليل الوزير.
لقد عاد جسد دلال المغربي طائراً فلسطينياً لا يهدأ ولا يستكين، يصيح ويحلق فوق تراب وطنه، ويقلق راحة العدو المزيفة، حتى تنفذ وصيته ويطبق قراره الأول بمصيره التاريخي والكوني. كم يحمل جسد دلال من أعشاب ومكونات وتراب فلسطين؟؟ وكيف عبر الحدود ووحد البلدان والمدن العربية رغم سايكس- بيكو ووعد بلفور وهزائم النظام العربي؟؟ ما هو سر ونشيد المقاومة؟؟ وكيف تنتقل الأسرار من جيل الى جيل؟؟ وكيف حملت دلال المغربي السر والنشيد وعبرت بهما نحو فلسطين؟؟ من أين تأت المجالدة والمطاولة والاستمرار في المقاومة والرفض والنجاح؟؟ أنه درس دلال المغربي الأول.

* بعد فحص الحامض النووي لجثمان دلال المزعوم في المختبرات الألمانية والفرنسية، تبين إن الجثمان لا يعود لها إنما لشهيد آخر مجهول، وقد كشفت الصحافة الصهيونية من أن دلال كانت مدفونة في ما يسمى مقابر الأرقام، وقد قام العدو بتجريف وتخريب تلك المقابر بدوافع الانتقام العنصري وبتأثير عوامل الطبيعية والإهمال. وهكذا مرة أخرى تختلط بقايا دلال بتراب فلسطين، في حالة تمازج وتلاقي عضوي لا ينفك. فالصبية عادت الى الوطن الأصلي واتحدت معه بشكل مادي ومعنوي لافت، واستعادت حصتها وموقعها ومكانها من المكان الأول.  

 

Alnassery3@hotmail.com

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

    | المرأة | فنون وآداب |   إتصل بنا | الأطفال |  إرشيف الأخبار | الصفحة الرئيسية |  مقالات | دراسات

 

مقالات مختارة

صوت اليسار العراقي

تصدرها مجموعة من الكتاب العراقيين

webmaster@saotaliassar.org    للمراسلة